لا تعني البطولة التعنت في الموقف، إلا عند بعض الأقوام البدائيين الذين لم يستكملوا انتقالهم من مرحلة الغابة الى مرحلة المدينة، حيث تتطور خبرات التفاوض عند الناس، ويجدون الف طريقة ليتعايشوا بسلام مفيد للجميع، ويتقون شر الحرب قدر الإمكان.
وطوال أعوام، كنا نتعرض الى الاتهام بالجبن حين نصرخ مطالبين بحوار صحيح بدل نزوة الحرب والعنف. ولقد طال الاتهام قادة شجعان مثل مقتدى الصدر وعمار الحكيم ايضا. وكنا نجيب على الاتهام هذا، بأن صناعة السلام تحتاج شجاعة ودراية اكبر من قرارات الانفعال الحربي التي في وسع حتى المراهقين ان يجربوها ويبرعوا فيها.
العبادي وعبد المهدي واجها طوال أيام اتهامات بانهما "انبطحا" للأكراد، وسينبطحان لـ"داعش"، والمقصود هنا، القوى السنيّة! وهذا توقع صحيح أنا اؤمن به وكتبت عنه، فإنجاح التسوية مع أربيل سيوفر لنا نموذج توزيع للثروة والسلطة، وتدريبا على المرونة، ويشيع مناخ تصالح، وكل هذه ستشجع إنجاح التسوية مع نينوى والأنبار. وهو يأتي بعد ان فشل نموذج الصراخ وتجييش الجيوش، في التفاهم مع أربيل او نينوى، بلا فرق، فضلا عن أننا جميعا خسرنا ولم يربح سوى خليفة داعش، مستغلا انقسامنا وانفعالنا.
وفي وسعنا ان نتفاعل إيجابيا مع وصف الانبطاح هذا، لنقول: إننا على استعداد ان ننبطح اذا كان في ذلك تهدئة للنفوس وإشاعة للفرح لدى شعب منهك ويائس. ولكن ما بالك بالسلطان السابق الذي كان يحب ان ينبطح كل يوم، لمشعان، وللفاسدين والفضائيين وللتخلف والتعصب والطائفية؟
أما إيجابيات "انبطاح" العقلاء والحكماء، فأختصرها بنقاط سريعة.
ففريق عبادي عبد المهدي، نجح في إبرام اتفاق مهم مع أربيل وتخطي التوتر مع الأكراد، وبرهن بوضوح ان البديل المتعقل ممكن وضروري، بينما كان من تنقصهم الخبرة يصيحون: أين البديل؟ حين كنا نطالب بخلع السلطان.
واتفاق بغداد وأربيل هو افضل رد على طموحات داعش، التي اعتاشت على حماقة السلطة، بينما أسلوب الحكمة الجديد اذا عززناه، يفتح ممكنات سياسية نحو الاتفاق الأوضح مع المحافظات السنية وممثليها، ويبدد أحلام داعش.
وقد جرى إخراج المشهد بحذاقة، ولاحظتم حضور حسين الشهرستاني مع عبد المهدي والعبادي، في مفاوضاتهم مع أربيل، وقد تصور الجماعة ان الشهرستاني لازال مؤثرا، وكانت ملاحظتي انه حضر كشاهد لا كمفاوض، لان نظريته في التفاوض تبددت، والنظرية التي انتصرت هي وجهة نظر عبد المهدي المعروفة. لقد حرص العبادي على ان يكون الشهرستاني شاهدا، كي لا يقال: "أين البنود السرية المذلّة للاتفاق؟".
والأصدقاء يسألون هذه الأيام: يعني العبادي زين، لو بعدين هم يخرب؟
ولا شك ان العبادي حالياً "زين"، لأنه يتصرف بروح الفريق، ويقوم باشراك القوى الوطنية وعقلائها في التخطيط.. ولايبرم اتفاقات سرية، بل يذهب كل اسبوع للبرلمان ويشرح ما اتفق عليه.. ويرسل وزراءه ليكاشفوا الناس. ولذلك يجب ان نسأل: الفريق الحكومي زين لو بعدين هم يخرب؟ وهذا ما يتوجب على التحالف الشيعي بشكل خاص، ان يضمن الإجابة عليه.
أيضا فإن الموضوع لا يتعلق بالعبادي وحده، بل بمجلس النواب، فاذا نجح سليم الجبوري ونائباه في تعزيز الدور الرقابي والتشريعي فإننا سنقطع نصف طريق النجاة. والمهم هو الالتزام بروح الدستور وضماناته والإسراع في تصحيح الوضع الخاطئ للهيئات المستقلة الأساسية وجهاز القضاء.
ملاحظتي الأخيرة ان العبادي وفريقه لم يبتكروا معجزة، بل استرجعوا سيناريوهات الاتفاق والتصالح التي كانت جاهزة ومهملة في مكتب المالكي، وقاموا بإحيائها. لقد كان يمكن ان نفرح بالتسويات والمصالحات، منذ نهاية الفين وعشرة. لكن المالكي ليس رجل فرح بل نقصه التدبير هو وفريقه، وامتنعوا عن سماع النصيحة.
أما المهم اليوم فهو حماية الاتفاقات وتعزيزها، وان نفهمها بشكل صحيح وجيد، وهذا دور جسيم للصحافة، فثلاثة أرباع الآراء المتعنتة هي نتاج سوء الفهم والاستعجال ونقص الصبر، وعقدة "الانبطاح".
انبطاحات العبادي والمالكي
[post-views]
نشر في: 3 ديسمبر, 2014: 09:01 م