مع تواصل استعراضنا للأمثلة التي تجسّد الظواهر السلبية التي امتلأ بها واقع التعليم العالي، سنركز هنا على أحد أكبر مدمّرات هذا التعليم، وهو تجاوز السياقات الأكاديمية، وهي الظاهرة غير المسبوقة في تاريخ الجامعة والتعليم العالي في العراق، إلا بشكل محدود ج
مع تواصل استعراضنا للأمثلة التي تجسّد الظواهر السلبية التي امتلأ بها واقع التعليم العالي، سنركز هنا على أحد أكبر مدمّرات هذا التعليم، وهو تجاوز السياقات الأكاديمية، وهي الظاهرة غير المسبوقة في تاريخ الجامعة والتعليم العالي في العراق، إلا بشكل محدود جداً ومن خلال وقائع معدودة خلال مدة قصيرة في بداية السبعينيات، ولاسيما في التعيينات والقبول في كليات التربية المختلفة. الطريف أنه حتى هذا الخرق المحدود ما كان ليغيب عن الآخرين، كاليونسكو والبلدان والجامعات في العالم مما يعني تأثيره في مواقفها من جامعاتنا وكلّياتنا، وهو ما نُفاجَأ بأن أساتذة جامعاتنا والمسؤولين عن التعليم العالي عندنا لا يعونه بعد عقود طويلة من ذلك التجاوز، مما سيؤدي تجاوزهم هذا للسياقات الأكاديمية في التأثير سلبياً في سمعة جامعاتنا في العالم. في المقابلة التي كان قبولي في المعهد الذي سأكمل فيه دراسة الدكتوراه في بريطانيا يعتمد عليها مع البروفيسور رئيس المعهد سألني باللهجة المصرية: "خريج كلية الآداب، أنت أم التربية دي بتاع البعثيين؟"، فقلت له: الآداب.
المهم أن هذا التجاوز للسياقات الأكاديمية ما صار أبداً ظاهرة، إلا في (مرحلة الضياع الأكاديمي) التي نعيشها منذ أن بدأت قبل خمس سنوات أو نحوها بحملة تهميش الأستاذ الجامعي وقيادته من غير الأكاديميين، وتحديداً حين تجسّدت بمجموعة قرارات (ثورية) سيذكرها التعليم العالي دائماً، وأهمها: أولاً- العمل على استبعاد مئات الكفاءات العلمية بحجة الاجتثاث؛ وثانياً- تعطيل الإنجاز المتحقق للأستاذ الجامعي وللجامعة العراقية بإلغاء قانون مجلس النواب العراقي الذي، صيانةً للجامعة العراقية من فقدان كفاءاتها، عدّل قانون الخدمة الجامعية بما يصون الجامعة العراقية؛ وثالثاً- مجزرة إحالة الآلاف من كفاءات العراق إلى التقاعد وإهدائهم للجامعات العربية والعالمية.. إضافة إلى اتباع كلّ ما كان يصبّ في الإضرار بالأستاذ الجامعي وفي النتيجة بالجامعة والتعليم العالي في العراق.
وفي العودة إلى السياقات الجامعية، فإن تجاوزها غالباً ما يبدأ من معرفة متجاوزيها لها ولكنهم يتجاوزونها، أو من عدم معرفتهم لها فيكون تحصيل حاصلٍ تجاوزها ، لينتهي الأمر في الحالين بما هو برأنا أحد أكثر مدمّرات التعليم العالي، كما قلنا، فنحن نعرف أن افتقاد المؤسسة الأكاديمية هذه السياقات يعني في النتيجة تلاشي الأكاديمية، بل ضياعها، وهو ما رأيناه كثيراً ولكن ضمناً في جُلّ الأمثلة التي تعرضنا لها في المقالات السابقة، وسنراه في بعض الأمثلة العملية الحية في هذا المقال والمقالات التالية له. وإذا كان ما سبق قد انطوى على الكثير من هذا ضمناً، وغالباً ما جاء عن غير عمد، أو نتيجة الفوضى، فإن ما سنتعرض له هنا سيبدو وكأنه مقصود، عن عمد وسبق الإصرار، كما نزعم أن كل أكاديمي حقيقي يمكن أن يرصده واضحاً بسهولة.
حكى لي الأستاذ (ج) أن عميدهم الجديد استدعاه كما أساتذة آخرين مبرّزين في أقسامهم بداية توليه المنصب ليدعوه ويدعوهم للتعاون معه في تحقيق طموحاته التي أثارت إعجاب الصديق وزملائه، في التحديث والتطوير واتباع السياقات الأكاديمية. فما كان من الأستاذ (ج) وزملائه، وهم يرون في ذلك أملاً بعضَ عودة إلى الأكاديمية المتلاشية، ليترددوا لحظة في الاستجابة، فأبدوا استعدادهم لدعم العميد الجديد والاستعداد لتقديم أي شيء والقيام بأي واجب يُناط بهم ويصب في مثل هذا التحديث والعودة إلى الأكاديمية الصحيحة، خصوصاً وقد تمثل العميد، حتى ذلك الحين، السلوك الأكاديمي السليم، وروح المبادرة الجميلة، والتهذيب والرُّقي الذي جعل أحلامهم بالإصلاح وبه شخصياً تطول كل شيء.
وهكذا راح الأساتذة المتفائلون ينتظرون، حتى صدر أحد أهم وأبكر قرارات العميد الجديد في طريق اعتماد السياقات الأكاديمية (الصحيحة) وهو يطول أهم مواضع العملية الأكاديمية في الكلية، وكما في كل كلية، نعني الجانب العلمي، ذلك القرار كان تعيين معاونٍ للعميد للشؤون العلمية، ومثل هذا بظني غاية ما يرجوه الأساتذة الجادون. لكن المفاجأة الكبرى كانت في أن العميد لم يتجاوز السياقات الأكاديمية، ولم يعطّل العملية العلمية، ولم يُحبِط أمل المنتظرين فحسب، بل هو أصاب ذلك كله مقتلاً، وقضى على أي أمل من الممكن أن يحلم به الأستاذ (ج) وزملاؤه وعموم الأساتذة الجادين. فالعميد الجديد لم يتجاوز شرط أن يكون معاون العميد حاملاً للقب (أستاذ) ليُعيّن تدريسياً يحمل لقب (أستاذ مساعد) مثلاً، مما سبق لعمداء أن فعلوه مخطئين، بل تجاوز ما لم يتجاوزه، بحدود علمنا، أي عميد سابق في كليته، وربما في الجامعات العراقية، حين عين (مدرساً) لهذا المنصب. المفارقة المأسوية هنا هي أن معاون العميد، وهو مدرس، سيكون بالضرورة، مسؤولاً بشكل مباشر أو غير مباشر عن جميع المجالات العلمية في الكلية، بما في ذلك المجلة العلمية التي نفترض أنّ من يتولاها يحمل بالضرورة لقب أستاذ، والمناهج وسياقات التدريس الجامعي التي لا يمكن أن يُعتمد في تطبيقها إلا على أصحاب التجارب العلمية والأكاديمية والتربوية الطويلة، والدراسات العليا تدريساً وإشرافاً مما من غير الجائز أصلاً لمن هو بدرجة مدرس أن يمارسها، فكيف وهي ستتبع بكل ما فيها، في هذه الحالة، المعاون العلمي وهو بلقب يؤهّله أصلاً للدراسات العليا لا تدريساً ولا إشرافاً! بعبارة أخرى من المبكي أن منصب المعاون العلمي هنا سيمكّن مدرّساً من أن يكون موجِّهاً علمياً وأكاديمياً لأكاديميين من حملة لقب أستاذ، وفي أسوأ الأحوال لقب أستاذ مساعد؟ يا إلهي! أين نحن؟ أين صرنا؟ وإلى أين نسير؟ ثم إلى أين يودي بنا مثل هكذا باب يفتحه بعض المسؤولين؟. بصراحة ليس لي إلا أن أجيب بقول إيليا أبو ماضي: فإذا القوم من الحيرة مثلي باهتونا.. وإذا بالباب مكتوب عليه.. لست أدري.
والآن، هل من أمل، بعد مثل هذه الصفعة التي تنزل علينا؟ نعم، ولكن ليس دون تغيير رؤوس العملية الأكاديمية، وهو ما نأمل، والحمد لله، أن يكون قد بدأ، حين تولى شخصية أكاديمية وزارة التعليم العالي، فلعل به يعود الأمل.
وهنا نقول مع أن مثل هذا الفعل الذي يتجاوز الألقاب العلمية، ويتجاوز السياقات الأكاديمية، قد تجاوز الفعل الفردي والحالة غير النمطية ليصير ظاهرة، خصوصاً حين صار التدريسي الذي يحمل لقب (مدرس) يتولى رئاسة القسم العلمي في الجامعة، التي هي أهم حلقة في حلقات العمل العلمي الجامعي. وهذا ما لا يتماشى مع المعمول به في جميع جامعات العالم، بل غير وارد تولي هذه المسؤولية حتى من هو يحمل لقب (أستاذ مساعد)، إلا عند الضرورة، فكيف الحال وقد صار الـ(مدرس) يتولى المسؤولية العلمية والأكاديمية في الكلية؟ هو بالتأكيد سابقة غير مسبوقة، كما قلنا..
على أية حال، معروف أن جامعات العالم تتبع أحد ثلاثة أنظمة في تعيين رؤساء الأقسام العلمية، لكنها جميعاً لا تنحدر إلى هاوية تولي مدرس لمسؤولة قسم علمي. النظام الأول وهو تولي من هم بلقب أستاذ الرئاسة بالتوالي، وفق النظام الألفبائي أو نظام غيره، لسنة واحدة أو سنتين لكل أستاذ، ولعل أشهر الجامعات اتباعاً لهذا النظام، من مدة طويلة، هي الجامعات المصرية، وجامعات بريطانية. النظام الثاني هو تكليف المافوق، وتحديداً عميد الكلية وليس غيره أبداً، للتدريسي تولي رئاسة القسم ولكن ممن هم بلقب أستاذ، وعند الضرورة فقط ممن هم بلقب أستاذ مساعد، لمدة محدودة، وهو متبّع في الجامعات الأردنية مثلاً. والنظام الثالث هو تولي رئاسة القسم، لمدة محدودة عادة ما تكون ما بين سنة وثلاث سنوات، بالانتخاب ما بين أعضائه، ولكن مرة أخرى على أن يكون ممن هم بلقب أستاذ وعند الضرورة بلقب أستاذ مساعد، ولا يمكن أن يكون بلقب مدرس، وهو المتّبع في سلطنة عمان مثلاً، وكان متّبعاً لدينا قبل أن تهيمن مركزية الإدارة على وزارة التعليم العالي ومؤسساتها الأكاديمية، ويبدأ معها دمارها، بنيّات لا نعرف هويتها كما لا نعرف من وما الموجّه لها!
هنا أتذكر أيام كنتُ أستاذاً مساعداً في سلطنة عُمان، وتحديداً حين اقترب رئيس قسم اللغات من إنهاء خدمته في عُمان، أن عميد الكلية كان يثق بي ويعتمد عليّ أكاديمياً كثيراً، فتحمّس بشدة لأن أتولّى رئاسة القسم، واجتمع بنا من أجل ذلك، ولكنه كان مضطراً إلى أن يُجري انتخاباً وقد أمل أن لا يختار أعضاء القسم أستاذاً للمنصب غيري، وهم يعرفون أنه يريدني أنا تحديداً، ولكنهم أصروا على الأستاذية واختاروا غيري، مما اضطُر العميد إلى التخلي عن توليتي رئاسة القسم وكلفني بدلاً من ذلك رئاسة إحدى وحدَتَي القسم وتحديداً وحدة اللغة العربية، فحافظ العميد على السياقات الأكاديمية، في وقت كان قادراً على أن يجعل أساتذة القسم، والنسبة العظمى منهم هم من غير العمانيين، يقبلون بذلك. فهل نجد أمثال هكذا أكاديمي مسؤول لدينا؟.. نعم بكل تأكيد، ولكنهم انحسروا كثيراً أمام تقديم الذي (كوّشوا) على المناصب في التعليم العالي. وهذا يقودنا إلى التساؤل: ما هي المعايير التي يعتمدها المسؤول الأعلى في اختيار رؤساء المؤسسات والمراكز والأقسام العلمية، وهو لا يعطي أي اعتبار للقب العلمي؟ هذا ما سنتناوله في مقال تال.