في ذلك الزمن البعيد وتلك البدايات الجميلة مازالت تلك اللحظات ماثلة أمامي يوم كنت أخطو خطواتي على السلّم المحاذي لقسم التسجيل صاعداً نحو قسم الفنون التشكيلية لتقديم أوراق القبول في أكاديمية الفنون الجميلة، هناك حيث أحمل في ملف كبير أحلامي وتخطيطاتي وصور بعض لوحاتي. حينها قابلني على نفس السلم رجل نازل إلى الأسفل، كان في منتصف الثلاثينات، ممتلئ وضخم نوعاً ما، وكان ببنطاله الجينز وقميصه الخشن الفاقع المنقوش بالمربعات يبدو أقرب إلى مزارع أمريكي منه إلى شخص عراقي عابر. أتذكر أني سألته "هل قسم الفنون التشكيلية من هذه الناحية ؟" فأجابني غير مبالٍ بكلمة "نعم" وهو منشغل بسيجارته دون أن ينظر إليّ. انتهيت من صعود السلم وهناك وجدت اثنين من الأساتذة يتحدثان مع بعضهما، وعرفت من حديثهما أن الشخص الذي كان ينزل السلم هو وليد شيت! انتصب شعر رأسي والتفت إلى السلم الخالي من الناس. كيف ضيّعت رؤية وليد شيت بشكل جيد؟ عندها تركت قسم الفنون التشكيلية ونسيت التقديم ونزلت بسرعة كبيرة إلى الأسفل باحثاً دون جدوى عن فناني المفضل الذي ضاع بين زحام الناس والممرات.
هكذا كان لقائي الأول بالفنان وليد شيت، لقاء يبدو عابراً لكنه يشي بالكثير حول أعجابي ومتابعتي له هو الذي كان يمثل لي نصف إله، هذا الفنان الذي يملك المهارة مع الثقافة والذكاء الفني إضافة إلى فطنة عالية في النظر إلى الأشكال واكتشافها. كنا نتحدث عنه كثيراً أنا ومجموعة من أصدقائي قبل القبول في الأكاديمية، وأتذكر جيداً حين جاءني صديقي سالم يخبرني "لك ستار، وليد شيت عارض عملا رهيبا في كولنبكيان، عمل مدهش بتقنية جديدة غير معروفة" كان هذا سنة 1982 حسب ما أتذكر، يومها تركنا المدرسة وذهبنا باندفاع المراهقين إلى متحف كولنبكيان، وهناك رأيت عمله الذي اصبح شهيرا في ما بعد والذي استعمل فيه الأيربرش ويظهر داخل العمل تخطيط لفتاة وكأنه ملصق من زواياه الأربعة بشريط لاصق على جدار، وكانت أجزاء الشريط اللاصق الصغيرة تبدو متسخة لكثرة مالمسها الناس الذين يريدون أن يتأكدوا أن الشريط مرسوم بالفعل وليس كولاجاً وذلك بسبب تقنيته العالية.
من الأشياء الجميلة في حياتي أن وليدً قد درسني الرسم في الأكاديمية. شخصيته الفنية كانت طاغية وتأثيره كبير على الجميع، هو الذي لا يقبل بأنصاف الحلول ولا بأنصاف الموهوبين. ذات مرة لم يكن لديّ لوحة بيضاء جديدة لرسم الموديل لهذا كنت مضطراً للرسم فوق لوحة قديمة لي كنت قد رسمتها في السابق، وبينما أنا في منتصف الرسم وبدأت بملء المساحات ووضع الخطوط هنا وهناك واذا به يقفز من كرسيه في زاوية القاعة ويقترب مني قائلاً "ستار اترك هذه المساحات من اللوحة القديمة ولا ترسم فوقها، لقد أعطى هذا التركواز والبرتقالي روحاً جديدة وإحساساً مختلفاً للعمل" وهو ربما لا يعلم أن تلميذه تسلم فكرته هذه وبدأ بالتدريب عليها في ما بعد في معرضه جسد المدينة، وبعد ذلك بأكثر من عشرين سنة أخذ هذه التقنية رسامون كثيرون أيضاً.
مخيلته غالباً ما تذهب بعيداً وكان كل يوم لديه أفكار جديدة لنا، نحن الذين ننتظر ذلك منه بشغف. ذات مرة جمعنا في القاعة مع علب كبيرة ومفتوحة من الألوان، كان ينادي على اسم واحد منّا ويعطيه فقط ثانيتين من الوقت تقريباً ليقوم برسم شيء سريع أو وضع إشارة ما أو يسكب الألوان بطريقة خاطفة على اللوح الكبير المعلق على الجدار، وهو أراد هنا أن يستحضر الحدس الذي لدينا وروح التجريد والعفوية.
كان وليد شيت وسيبقى واحداً من أهم الشخصيات الفنية التي مرّت عليّ في حياتي ، أنا الذي طفت بلداناً عديدة وتعرفت على فنانين كثيرين لهم أساليبهم وتقنياتهم وحضورهم الفني . تحيّة لك أيها " الأسد " كما كنا نطلق عليك تحبباً حين كنت تدخل قاعة الرسم . شكراً لأنك أضأت لوحاتنا المعتمة وفتحت لنا نوافذ تطل على عالم مليء بالجمال والإبداع والفن الحقيقي.