TOP

جريدة المدى > عام > عن مقتل الشاب الأسود

عن مقتل الشاب الأسود

نشر في: 6 ديسمبر, 2014: 09:01 م

لانريد العودة الى "كوخ العم توم" ، لكن ذلك الكوخ يبدو انه ما يزال يخفي من الأسرار مالم يشِ به حتى الان.من ناحية ثانية، لانجحف جهد الولايات المتحدة في مسألة حقوق الانسان ومناهضة التمييز العنصري، ونحن نرى البشرة السوداء مرة وزير خارجية (رايس) ومرة رئيس

لانريد العودة الى "كوخ العم توم" ، لكن ذلك الكوخ يبدو انه ما يزال يخفي من الأسرار مالم يشِ به حتى الان.
من ناحية ثانية، لانجحف جهد الولايات المتحدة في مسألة حقوق الانسان ومناهضة التمييز العنصري، ونحن نرى البشرة السوداء مرة وزير خارجية (رايس) ومرة رئيساً للولايات المتحدة (اوباما).

 

 

 

لكن المسألة ليست مسألة تشريعات قانونية حسب، وان كانت هذه اساسية لكل عمل جاد في مكافحة او الغاء التمييز العنصري. ومع اقرارنا ان بعضاً من السود سيئو المزاج او كما يقول الانكليز( bad tempered )، وان الناس المهذبين بعامّة يشكون من تصرفاتهم سواء في الشارع او في السوق او انهم يفتحون مخازنهم ايام الاحاد، فضلاً عن متاجراتهم في العملة او المخدرات.. لكن هذه امور تربوية أصلاً، كما ان لها علاقة بالمستوى المعيشي والبطالة. فاذا اكتفوا او ازدادوا رفاهاً اقتصادياً زالت هذه الظواهر المدانة. فنحن نرى اطباء سوداً متميزين وفي منتهى اللطف والدماثة ونرى رجال قانون سوداً ومدراء شركات وعاملين في السفارات والمنظمات بخلق محمود ولطف. عموماً تلك هي اسباب كراهة البيض او الجبهة القومية ( National Front) للملونين وهي حركة تتسع كل يوم!
لكن اين تبدأ مشكلة الشاب الاسود القتيل ؟ ولماذا يثير ضجة بهذا الحجم مصرع انسان واحد وفي العالم يُذبح العشرات ذبحاً بقطع العنق ولا اكثر من استنكار وخبر صحفي؟
المسألة اولاً هي ان اطلاق سراح القاتل الابيض يُذكر السود بما واجهه أسلافهم في المزارع والاقطاعيات الكبيرة من قتل وجلد ومن شراسة وطغيان السادة الامريكان. فهذا الحدث الجديد اشارة تهديد لمستقبلهم كما هو إثارة للماضي المقيت وما عانوا منه عقوداً من الاسترقاق .. صحيح هم مطمئنون الى ان القوانين الأميركية لاتسمح بانزلاقات خطيرة ولكن هذا خرق سيئ. روح السادة البيض ما تزال تحكم اميركا سواء بالنسبة للسود او بالنسبة لبقية شعوب العالم .
ان اميركا تحمل ارث العالم في التزّعم والسياسة ذلك التزعم التقليدي للأوروبيين والشعور بمكانة اعلى. والمواطنون البيض يستقون هذا الشعور من عموم هيكلية وسلوك دولتهم. ومع انهم- الأوربيون- عانوا من عنصرية النازي وتعامله المتعالي الرديء مع الشعوب الأوروبية الاخرى. كان يمكن ان يكون هذا درساً في حقوق الانسان ومثلاً تاريخياً يُذكر بازدراء. لكنهم ،الاميركان والأوروبيين ، مارسوه بطرق شتى مع المهاجرين وفي مستعمراتهم في العالم . إدراكهم لشناعة هذا الشعور غير مشكوك فيه ، لكن المصالح تتطلب خلاف ذلك وعادة ما تنتصر المصالح على المبادئ.
نعلم ان ميثاق الاطلسي- اب 1941 مال الى فكرة ان نظام العالم الجديد يجب ان يقوم على مبدأ الحقوق المتساوية لجميع الشعوب. لكن هذا ايضاً اصطدم بالستراتيجيات العسكرية. ثمة حرج مسَّ مصالحهم واسواقهم فاضطروا للتخلي عن بعض المستعمرات ومنح استقلال لبعضها ثم راحوا يلتفون على هذه الاجراءات بطرق تفرغها من محتواها.
لكن امرا مهماً ظل ثابتاً هو اقرارهم، بوجوب احترام حقوق الشعوب في الخارج ومكافحة التمييز العنصري في الداخل. بالنسبة للولايات المتحدة، كان التمييز العنصري يشكل عبئاً وثلماً في مصداقيتها أمام العالم. وهذا سياسياً يعيقها من تأسيسات مستقبلية في البلدان البعيدة. فماذا تفعل لتلميع صورتها ولتهيئ في النفوس امكانات الثقة بها وهي دولة بدأت ترسم خطوطها كأعظم دولة في العالم؟
تأكدت الاصلاحات الداخلية. ما عاد احد يشكك بجدية وأهمية ما تم في الداخل الأميركي. الحساسيات القومية والعنصرية في التجمعات والأحياء الخاصة، هي بؤر لتفريخ التذمرات او الأحقاد. سبب ذلك هو مفردات العيش والاحتكاكات اليومية في ظروف العيش والعمل وانهم يقومون غالباً بعمل عضلي لايقوم به الابيض. لكن هذا ليس هو الأمر الأساس عند اطلاق الحكم.
الأساس ان مشاعر بالاضطهاد، بالحيف واسعة في الداخل الأميركي واكثر منها في الخارج. الاهتمام الرسمي الاميركي صار لاصلاح السمعة الأميركية في الخارج، تهيئة مراكز استماله وتصويب وجهات النظر. وضعت الحكومة الاميركية برنامجاً للزمالات الدراسية. واجتذب هذا، كما خطط له، وجوهاً صاروا من بعد موالين او مثقفين بالثقافة الاميركية. لقد بدأوا بصناعة قادة جدد للشعوب. قادة ثقافيين، تربويين وسياسيين.. وعلى النطاق الشعبي توزعت في بلدان العالم المختلفة السينما الجوالة والمجلات والنشرات فضلاً عن اقامة دورات تدريبية – تثقيفية في آن واحد وبرامج زيارات للولايات المتحدة. كان هذا المسعى الواسع لإشاعة نظرة ايجابية و"تفهم" لحقيقة المجتمع الأميركي الجديد . كما ان بعض الجامعات الأميركية معروفة بتخريج قادة ونخب ثقافية وصار اسمها مقروناً بهذه "الصناعة".
هنالك مسألة اخرى هي ان اميركا ما كانت مرتاحة لما يحققه "الاتحاد السوفيتي" من سمعة بوصفه صديق الشعوب وانه يحترم الاقليات ويحقق المساواة في القيم الاشتراكية. ولذلك اتخذت مسألة التمييز العنصري اتجاهاً سياسياً مباشراً بعد ان كانت ذات اتجاه اخلاقي على العموم..
لقد نشأ بالنسبة للستراتيج السياسي خوف من الاقليات ومن مناصرتها لأعداء أميركا اذا ما اندلعت حرب في مكان ما. كما ان التمييز العنصري ومشاعر العداء لأميركا ليس في صالح الاسواق التجارية الأميركية ولا بدعم الاطمئنان على المصالح الأميركية ومصادر الطاقة.
كان هذا اول المفترقات الصعبة بين الرغبة في المساواة واحترام حقوق الانسان والتخلي عن اشكال العنصرية من جهة والمصالح، شركات ومؤسسات في الداخل وقضايا ستراتيجية تخص الهيمنة الأميركية- او التقدم الأميركي- من جهة ثانية.
اما المفترق الصعب الثاني فهو مفترق مزدوج، ثقافي- اخلاقي. ذلك ما تعرض له جوهر الديمقراطية. انت لاتستطيع ان تؤمّن تعددية ثقافية ومساواة اجتماعية وما زلت لم تتمكن من ترصين العلاقات العرفية المتواجدة معاً في الداخل الأميركي ولاحماية حقوق الانسان خارج الولايات المتحدة. ذلك ظل خاضعاً للمساومات الأميركية ومرتبطاً بمدى تأثيره وتأثّره في السياسة الامريكية. يتحكم في هذا مدى الموالاة ومدى التعاون مع المصالح الاميركية العليا.
فلم يكن اكثر من احتجاجات واجراءات متأخرة هي كل ما صدر عن الولايات المتحدة أمام تهجير الايزيديين واستعباد عدد كبير منهم، من الجنسين. وبالرغم من المسيحية الأميركية، فالمسيحيون في العراق، في الموصل، هُجّروا من قبل جماعات مسلحة ذات تأسيس أميركي أصلاً. ردّ الفعل لم يكن ماحقاً تأديبياً او شافياً!
انه من الصعب ومن غير الانصاف ان نعزو التكتل لأسباب قومية او عرقية صرف. الاقليات تشعر بغربة بدرجة او باخرى. وصعب ايضاً عزوه الى رغباتهم الشخصية، الأنويه. هم يحسون بان علاقاتهم مع الاخرين غير مؤمَّنة تماماً. هي تُغَذّي احياناً بلا عدالة الفرص المتاحة وعدم ارتياح منهم. يحسون هذا في السلوك اليومي معهم. الدولة، رسمياً، لاتعلن التمييز ولكنهم يواجهونه.
هذا الإنكار المبطَّن يقوي الرجعية المحلية ويمّكن المحافظين، ذوي الثقافة الاقطاعية، من الهيمنة والتزعّم سلوكاً وايماناً. هم بهذا يتصدون للديمقراطية اللبرالية الناشئة. وهذا ما يضع النهج الأميركي ثانيةً موضع شك. الاخلاقية الديمقراطية في رأي الأقليات غير مؤمّنة بشكل كاف. وهكذا نجد العقل القاصر، الحريص على مصالحهِ فقط، يسلك احياناً سلوكاً مخجلاً. فهو يتوسل الى الرضا عن طريق الهبات وتوزيع السلاح والمال لأنصارهم. وهذا هو ما اسميناه بـ المأزق الأخلاقي.
ولهذا جاء مقتل الشاب الأميركي الاسود ليكشف العيوب المسكوت عنها في الجوانب المتعددة للمسعى الديمقراطي. الثقافات غير المنسجمة، او المتضادة، تجعل الاقليات تقدم قرابين من مصالحها. او من ابنائها اومنهما معاً. وهذا لايتم فقط بتعرضهم للمعاملة غير اللبرالية، رسمياً، بل بحكم النزوع السياسي الاقطاعي ونوع من النازية المُضمرة. الشرطي الأميركي اطلق النار على الشاب الاسود تماماً كما كان السيد يطلق النار على العبد الاسود في المزرعة، يطلق عليه النار ويرديه قتيلاً ولاحساب!
لقد كان هناك مسعى جاد، بل عظيم، للديمقراطية اللبرالية وكانت قوانين أميركية ومن الأمم المتحدة، قوانين محترمة ترسم مكاسب مهمة للحركة الانسانية. لكن الفشل واضح في بعض من هذا المسعى لادخال قيم اللبرالية والتعددية الثقافية وحقوق الانسان لبعض الاقليات. لقد فشلت الدول اللبرالية حتى الان في حماية هذه الجماعات من المُضمر الذي يخفيه نوع من الحياء المدني وكذلك من الاعتداء الخارجي. فقتل الشاب الأميركي الأسود بإطلاق النار عليه عنوان وراءه قصة لم يُحسم رسم نهايتها حتى الان!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram