تظهر الوثائق القنصلية الفرنسية العائدة الى منتصف القرن التاسع عشر، مختلف الاوضاع الجغرافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والقنصلية التي عرفها العراق في اواخر الحكم العثماني للبلاد الذي كانت بموجبه البلاد مقسمة الى ثلاث ولايات هي: الموصل وبغداد والبصرة، وتصف هذه الوثائق عالما انتهى ليحل مكانه عالم آخر
بعد اكتشاف النفط الذي ساهم مساهمة فعالة في مسح حالة الفقر السابقة وبعدما تهيأ للبلاد حكم عربي عرف بالتدريج كيف ينفض عن البلاد واقع التخلف الاداري السيئ الذي اضعف الموارد وفكك البلاد طوال الحكم العثماني، وهذه الوثائق العائدة الى سلسلة (المراسلات السياسية للقناصل في تركيا) الجزء 1-12 (1830- 1840) والى مراسلات قناصل بغداد والموصل جزء 1-5 (1840- 1866) وبغداد ، جزء 6-7 (1867- 1895) والموصل ، جزء 2-4 (1868- 1895) تصور لنا المواصلات عبر الصحراء القاحلة وما يعترضها من اضطرابات امنية، وتصور القوافل البدوية والمدن ذات الشوارع الضيقة والموحلة والاسواق الصاخبة التي تفتك بها الاوبئة موسميا وتعصف الصراعات وتظهر العادات والتقاليد الموغلة في القدم والموظفين الفاسدين والطغاة ولئن صدقت مراسلات القناصل او لم تصدق او كثرت فيها المبالغات والافكار المسبقة، فهي تبقى شاهدا حيا على ماضٍ ذهب.. كانت مهنة القنصلية امرا صعبا في العراق، والسبب في ذلك ان الموظفين في الادارات الرسمية كانوا متعصبين وضعافا امام التهديد والرشاوى وكان القناصل بسبب نظام الامتيازات الاجنبية مسؤولين ليس عن حماية رعايا السلطان من الكاثوليك فقط، بل كانت لهم مداخلات مع الادارة وقد اساءت هذه الوصاية الى علاقات القناصل بالمسلمين واثارت حفيظة بطانة السلطان بالذات الذي لم يتقبلها الاّ بشق الانفس، ولذلك كانت السفارات تشكو كثرة الشكاوى القنصلية على الوضع القائم، وكانت دائما تدعو الى الهدوء والى الصبر في معالجة المشاكل. وفي اساس خلافات القناصل مع الولاة نجد الصراعات على تطبيق البروتوكول، ففي عام 1840 امتنع السيد ويمار، القنصل الفرنسي العام في بغداد، عن اقامة علاقات رسمية مع الحاكم لان هذا عند مجيئه الى بغداد قام بأول زيارة له الى المسؤول البريطاني، الذي كان اقدم في مركزه من زميله الفرنسي، الذي كان يزعم بأن الامتيازات الاجنبية تعطيه حق الاسبقية، ولم تبادر السفارة الى تأييد القنصل في شكواه الاّ بطريقة مائعة، وكل ما صنعته، الحصول على رسالة تأنيب للحاكم الذي لم يأبه للامر، وعندما علمت وزارة الخارجية الفرنسية بالامر بدأت توصي القنصل بضرورة التسامح فأجاب القنصل عليها قائلا: (واذا دخلتني اراء سيادتكم التي تشرفت بسماعها، لم اتوقف، من دون الابتعاد عن شرف الوظائف التي احمل، عن اقامة العلاقات مع الباشا، التي تحمل خطأ انتهاك حقوق التشريف، والرتبة العالية والاقدمية، التي قام بها هذا الموظف حين وصوله الى بغداد، ولي كل السرور بأن اعلن على سموكم بأنه بعد مفاوضات طويلة قبل الباشا ان اختار بين زيارة رسمية للقنصلية بشكل يمحو ما جرى او بين رسالة اعتذار، وقد قبلت الحل الاخير بعد استشارة سفارتنا).. ولكن الاتفاق بين الاثنين لم يعمّر طويلا، فاشتكى الباشا للسلطان عن الوسائل السيئة التي يعتمدها القنصل الفرنسي العام تجاهه وعلمت السفارة والوزارة بما جرى فانبت القنصل لان الوقائع كانت صحيحة، وطلبت منه عدم تجاوز صلاحياته وبأن يعود الى تطبيقها وبأن يبتعد عن تعقيد العلاقات مع السلطة الاساسية في الولاية. المصالحة لم تؤد الى نتيجة حاسمة، في اول ايام رمضان المبارك، استقبل الباشا قنصل انكلترا بصورة احتفالية كما تجري العادة عن افتتاح السراي، ورفض ان يمارس قنصل فرنسا هذا الحق كعميد للسلك القنصلي في بغداد فيأتي قبل قنصل الانكليز الذي ضرب عرض الحائط بحق الاقدمية الذي وضعه مؤتمر فيينا كما ان الباشا رفض تشريفات الامتيازات الاجنبية. وغضب الباشا من ادعاء القنصل عليه الى سفارته في اسطنبول فبادر الى الادعاء على القنصل لدى رؤسائه، وقد ادت هذه الخلافات المتأتية من اشكالات حول الزيارات البروتوكولية والتشريفات ورفع الاعلام، الى غضب غيزو وزير خارجية فرنسا الذي رأى فيها حالة مسكينة خصوصا انه لم يكن راغبا في قيام مصاعب مع القسطنطينية، وان يكن ذلك على حساب معتمده في بغداد. وازداد الامر سوءا بين الحاكم والقنصل حتى ان جيوش الاول في عام 1846 دخلت بسلاحها الى حرم القنصلية ورفض الباشا معاقبتها، وامام ازدياد وقاحة الباشا تراجعت السفارة في اسطنبول عن تحفظها وتدخلت بحزم الى جانب قنصلها فاتصلت بالباب العالي الذي ارسل لوما قاسيا الى الباشا لان تصرفاته تغيرت كليا. وانتهت المشاكل سلما بين الاثنين ولكن النهايات السعيدة لم تكن دائمة مع السلطات المحلية ففي عام 1866 اختلف قنصل بغداد الفرنسي مع الباشا الذي رفض تقديم التشريفات العسكرية له في الوقت الذي كان يقدمها لزميله البريطاني، وعندما اشتكى على هذا الواقع طلبت منه سلطاته العليا اللجوء الى الهدوء فهدأ خلال سنتين ولكن في عام 1868، اختلف مع قاض بشكل علني بحيث ان الحكومة العثمانية طلبت استدعاءه، فطلبت الوزارة الفرنسية منه تقديم ايضاحات، فأجاب بما يلي: (في يوم عيد صاحب الجلالة السلطان ذهبت، حسب العادة، بز
عراق القرن التاسع عشر في تقارير قناصل فرنسا
نشر في: 13 ديسمبر, 2009: 03:57 م