لم يسقط الثلج على بيروت، وكما هي منذ مطلع الشتاء ظلت شوارعها في الحمرا ساخنة، فالشمس لا تنسى تشرق وتتأخر في مغيبها الدافئ الندي. ومنذ دخلتها مدعواً الى المركز الثقافي العراقي ومتفرجاً على معرض الكتاب في ضاحية البيال المنخسفة شجرا ومركبات، كنت أتوقف عند مشهد لا ينفك يسائلني: ترى لماذا لا يحدث هذا في بغداد والبصرة؟ مستثنيا الموصل التي بيد داعش والغبراء. كانت المقهى علامة فارقة في بيروت وفي الحمرا خاصة. وحين مددت عنقي متلصلصا، متطلعا في وجوه جلّاس مقهى التاء المربوطة وجدت ذراعها تطوق كتفه، لا اعلم ما اذا كانا حبيبين، زوجين ... كان الوله بادياً والشوق طافحٌ عارمٌ، لكنها حين قبلته في وجنته احسست بان الارض باردة، تتسع بالفتية العشاق، وهي اولى بمن عليها من المحبين والمغامرين على طريق النور والامل .
وفي مبنى السفارة العراقية بضاحية الرملة البيضاء، حيث استقبلنا السفير رعد الآلوسي صارت بيروت اكثر الفة، كانت ابتسامته ارق واجمل من المبنى الجميل، القريب من البحر، لكنني، ودونما سبب تذكرتُ بلقيس الراوي، ابنة الاعظمية الهائلة، زوج الشاعر السوري نزار قباني التي فجع بها هنا، حيث بعثرت جسدها مع من كان معها اطنان البارود ذات يوم في ثمانينات القرن الماضي. كان الالوسي دبلوماسيا محترفا، عمل اكثر من اربعين سنة في الخارجية ، يحب الشعر ويقرضه احيانا.
ظلت اذرع الصبايا الباذخة في مقهى التاء المربوطة تطوقني حيثما حللت، وفي اي مكان ضمني، ومن فرجة في قميصهن كنت اتطلع لبيروت وهي تندى وتتموج، ومن بين اذرعهن كانت البراءة تتقدمني عطرا ومهابة، ولأنهن تركن شعرهن تائهاً سرمدياً على الاكتاف واللابتوبات وبين الطاولات منهمرا على المقاعد والصحف كنت اسرّحُ البصر ناحية البحر فيرتد طرفي الي خاسئا وهو حسيرٌ منكسرٌ فاقول: بيروت من تعب ومن ذهب واندلس وشام كما كان محمود يصفها، غير أن حضور اصدقاء، شعراء وكتاب عراقيين ولبنانيين وحديثا جادا في الثقافة والسياسة، جرني الى ما لم يكن في مدونة روحي فصمتُّ، صمتُّ ومرت الساعات الطوال الثقال قبل أن تقودني خطاي الى سريري في السيزر بارك هوتيل، الذي علمت فيما بعد بان الطريق له تهبط مزحومة بالذكريات الى مقهى كوستا حيث كانت تجلس العظيمة فاطمة المحسن.
سرّني اني التقيتُ العزيزة الجميلة رشا فاضل، التي كانت سببا في دعوتي لبيروت، وحين قرأت اهداءها، المنقوش بعناية على صفحة روايتها الموسومة (على شفا جسد) حيث كتبت: الى عطر امي البصرا، الى ابي الخصيب ، الى الشعر وهو يزهو فوق النخيل، الى طالب عبد العزيز حتماً. كتبت( البصرا) هكذا كما يلفظها الاهل البصريون، فهي كما في افواه غيرهم، احسست بان دفقاً من ماءٍ حلو عذب سرى في شرايني، لكنها حين قالت بان امراة بصرية من ابي الخصيب، كانت تسكن جوارهم في تكريت قد ارضعتها وهي طفلة في مهدها، كانت تقول هي امي، وغالبت، غير قادرة دمعة تحدرت من عينيها الزرقاوين، انتابني الم من وطن يحاول احباؤه الابقاء عليه يقظاً. ظلت رشا تحدثني عن طفولتها في البصرة، لكني كدت انحني معها باكيا وهي تقول بانها، وفي عودتها الاخيرة من هناك كانت قد عبت جيوبها ترابا، هكذا دونما شعور بالعودة اليه ظلت تعبئُ ثيابها من ذاك العبق المالح الندي.
لم تبلغ احزاني شوطها كله فقد تمكنت العزيزة خلود الفداغ، ابنة الطبيب المشهور داود الفداغ، البصرية، الخصيبية جداً، زوجة الاستاذ نزيه، من لملمة آلامي هناك، فقد اخذنا الحديث الى قرية الفداغية، اقصى جنوب البصرة، والى كوت الفداغ في ابي الخصيب والى الزبير والاسر النجدية التي سكنت البصرة منذ عقود وعقود، وخلال وقوفنا الطويل بين الارفف والطاولات داخل معرض الكتاب، كان الحديث يتجوسق نخلا وانهارا وماء لقاح وحلاوة نهر خوز.
بصريون في بيروت
[post-views]
نشر في: 6 ديسمبر, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...