د. حياة شرارة في بداية تموز 1947 سافرت نازك الى بلودان في سوريا كانت اقامتها في بلودان حافلة باللقاءات والدعوات غير ان حادثة مفاجئة جميلة اترعت فؤادها بروعتها، وتركت فيها سعادة لاتنسى، كانت تمشي في ممر الفندق واذا بها ترى على مقربة منها الموسيقار محمد عبدالوهاب، وزوجه نهلة القدسي، غمر الفرح قلب نازك لهذا اللقاء الذي جاء على غير موعد
والذي كان حلما من احلام الطفولة امتد عبر السنين الطوال وتجسد امامها حيا مفعما بالهناء، خفت خطواتها عفويا نحوه، وقدمت نفسها بتواضع ومدت يدها مصافحة اياه، انتقل البشر والسعادة منها الى وجه موسيقارنا الكبير، فامامه تقف شاعرة العرب المشهورة بابتسامتها الهادئة وعينيها الحالمتين الذكيتين وهو لايكاد يصدق بصره، اعرب لها عن سعادته الغامرة لالتقائه بها، بالشاعرة التي هي اشهر من نار على علم، على حد تعبيره، واجابته بتواضعها المشهود وابتسامتها الهادئة، انها مهما بلغت من الشهرة فسيظل اشهر منها لان اسمه يملأ اجواء العالم العربي وبيوته منذ عقود من السنين غير ان محمد عبد الوهاب اصر على ان نازك اكثر منه شهرة. كان الموسيقار الكبير قد وصل الى بلودان قبيل يوم واحد من التقائها به، رأته بعد ذلك مرات عديدة وجلست مرة معه ساعة بكاملها واخذا يتحدثان في موضوع اثير عليهما، يحمل معنى البقاء والوجود نفسه في فكرهما، انه موضوع الشعر والموسيقى والغناء والتمثيل فنازك تحب اغاني محمد عبدالوهاب منذ طفولتها، تحفظها وتعزف موسيقاها وتغنيها امام اهلها والناس المقربين منهم او تترنم بها بمفردها، فالغناء والموسيقى كالماء والهواء والشعر لاتستطيع نازك ان تعيش بدونها، وكانت تحمل العود معها في تجوالها وترحالها، وها هي الان قد حملته معها من الكويت الى بلودان لتعزف عليه كل صباح وتغني بعضا من اغاني محمد عبدالوهاب او فيروز او عبدالحليم حافظ. تحدثت نازك مع محمد عبدالوهاب عن عشرات من اغانيه القديمة والجديدة عن الحانها وتأليفها وموسيقاها، ابدت ملاحظاتها عنها وكانت تتلو اشطرا منها احيانا، فيصاحبها محمد عبدالوهاب في التلاوة ويبتسم او يضحك كان يصغي الى نازك باهتمام شديد وفرح غامر وهو يراها تحيط احاطة شاملة باغانيه، وتستوعبها وتتذوقها وتحفظها، ولها اراؤها المتفردة فيها. بدت عليه السعادة التي تغمر الفنان عندما يرى مستمعا عميق التذوق والفهم والحب لاغانيه، فلا احب لنفس الفنان من مستمع متضلع بمعرفة فنه، بدا عليه انه يعيش ساعة رائعة من الساعات النادرة المشهودة في عمره، لقد طاب له ان يتحدث الى شاعرة رقيقة الحس واسعة الاطلاع على فنه في زمن اتجهت فيه الموسيقى والاغنية العربية الى التدهور والهبوط حسب رأيه، قال لها صار المستمع يتذوق الموسيقى بيده لابسمعه، ويقصد بها الهوسات والتصفيق والصخب المصاحب للاغاني، اضافة الى ذلك كان يعاني مسألة اخرى ترتبط بالغناء والموسيقى، فقد كان يفتقد وجود ناظمين جيدين للاغنية مثل احمد شوقي الذي غنى كثيرا من قصائده وكانت تربطه به رابطة فنية وروحية قوية. بعد تناولها اغانيه بالتعليق وابداء ملاحظاتها عنها، حدثته نازك عن المكانة الفنية الرفيعة التي يشغلها في منزلهم وعن مشاعر الحب والاعجاب التي يكنها له افراد اسرتها ولاسيما اختها احسان، حدثته عن انتظارها لموعد اغانيه في الراديو في السنوات البعيدة الماضية وكيف كانتا تسهران معا حتى الساعة الثانية صباحا لتسمعانه وهو يغني (حياتي انت) او (اغنية الفن) او ليالي كيليوبترا، بوغيرها من اغانيه الجميلة طاب له ان يعرف بوجود مستمعة ثانية شغوفة باغانيه ومقدرة لفنه، فسألها عما تعمل احسان، اخبرته انها مدرسة للغة العربية وانها اديبة لها ابحاث كثيرة في الادب العربي، صمت المغني الكبير لحظة وكأنه يعمل التفكير فيما حدثته به، ثم قال لها فجأة ، ارجو ان تبلغيها تحياتي، اضاف وقد بدا عليه السرور والرضا وارتسمت ابتسامة عذبة على وجهه انتم مستمعون ممتازون، لم تكن فرحة نازك الكبيرة برؤية محمد عبدالوهاب مكتملة، كانت في اعماقها تتنغص لاحسان لعدم مشاركتها لها فرحة اللقاء الذي يمثل امنية عزيزة من اماني العمر، ان احسان اقرب اخواتها الى نفسها منذ الطفولة ورفيقتها في درب الادب والفن، وقد مر امام ناظريها شخص اختها عندما كانت تتحدث مع الموسيقار الكبير. جرى لقاء ثان بينهما اثناء وجودهما في بلودان. مسك عبدالوهاب بخيط الحديث هذه المرة، بعد ان كانت نازك قد فصلت الحديث عن فنه في جلستهما الاولى، تكلم عبدالوهاب على نازك، وكان شديد الاعجاب باسمها، قال لها انه اجمل اسم سمعه في حياته ولايمكن ان يوجد اجمل منه، تغزل بجمالية لفظه وشاعريته حوالي خمس دقائق وبعدها اخذ يتساءل كيف يمكن ان يجتمع هذان الاسمان معا: نازك والملائكة، نطقهما مرة اخرى ببطء وتؤدة كأنه يستمتع بموسيقى حروفهما وروعتهما ويتأمل حقيقتهما، فربما يكونان من ابتكار نازك وابداعها!، وبعد ان لفظهما بتمهل اعرب عن شكه بأن يكون هذا اسمها الحقيقي، وسألها، احقا انه اسمك ام هو الاسم الادبي المستعار الذي تحبين ان يعرفه الناس به، ضحكت نازك وردت وهي ماتزال تضحك: انه اسمي الحقيقي فقال، عجبا،! مرة واحدة نازك والملائكة معا، هلا اخبرتني لماذا سماك ابواك بنازك؟ روت له حكاية الثائرة السورية نازك العابد التي كان والدها معجبا بها، قال،
صفحات من حياة نازك الملائكة .. اللقاء الاول بمحمد عبد الوهاب
نشر في: 13 ديسمبر, 2009: 04:08 م