TOP

جريدة المدى > عام > الاحتلال اللغوي

الاحتلال اللغوي

نشر في: 8 ديسمبر, 2014: 09:01 م

(1)   لست أريد أن أكون سلفيا لغويا ، مع أنها ليست بسُبَّةٍ أن يكون الإنسان سلفيا في عصر منفتح نحو تجاوز هويته الثقافية ، وبالأحرى فإنني أنوي تشخيص حالةٍ ومراقبة اللغة المعاصرة وهي تعاشر الغرباء في وضح النهار .بات معروفا بأن اللغة العربية متأثر

(1)

 

لست أريد أن أكون سلفيا لغويا ، مع أنها ليست بسُبَّةٍ أن يكون الإنسان سلفيا في عصر منفتح نحو تجاوز هويته الثقافية ، وبالأحرى فإنني أنوي تشخيص حالةٍ ومراقبة اللغة المعاصرة وهي تعاشر الغرباء في وضح النهار .
بات معروفا بأن اللغة العربية متأثرة بشكل ما باللغات الغربية وخصوصا الإنكليزية والفرنسية ، وبات معروفا أيضا أن حجم تأثير اللغة الإنكليزية يفوق حجم صاحبتها الفرنسية أو أية لغة أخرى ، بسبب الرغبة الملحة في المجال العربي المعاصر للتحديث الذي اتخذ اللغة الإنكليزية – عالمية الطابع – بوابته لذلك التحديث .

ولم تكن الفرنسية ببعيدة عن هذا التأثير إذ يقول محمد المبارك : ( ومن أسباب تبديل معاني الألفاظ تأثير اللغات الأجنبية، بإشراب الكلمة العربية معنى الكلمة الأجنبية المقابلة لها أو إعطائها معناها، كاستعمال الأطباء اليوم كلمة (تدخُّل) بمعنى العملية الجراحية، واستعمالنا كلمة (الوسط) للبيئة والمحيط ، وكلمة (التحليل) للشرح والتفسير، و(المدرسة) بمعنى المذهب، ... فهي ترجمة حرفية للألفاظ الفرنسية) " ".
ولكن تلك المغامرة ليست بريئة تماما فبقدر ما حاول المجتمع تحديث نفسه عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ؛ حاول أيضا تحديث نفسه ثقافيا ( فكريا وأدبيا وفنيا ) ، وكانت اللغة واحدا من مجالات التحديث غير المقصود وهو ما تبناه المثقفون خصوصا ظنا منهم أنهم بذلك إنما يتحدثون على السجية العربية نفسها التي ألْفوا أنفسهم عليها منذ تأسيس اللسان العربي .
وما فتئ أصحاب التصحيح اللغوي يذكروننا بين الحين والآخر بأن تحديث اللغة وأساليبها يحمل معه أخطاء لا تغتفر وأن اللغة العربية الحديثة تحمل في طياتها اليوم طريقة الإنشاء الغربية وأن في ذلك خطرا على اللغة العربية وعلى طريقة التواصل بها ، مما يدعونا إلى مكافحة هذه الحشرات اللغوية .
ومع ذلك ما نزال نقع في الأخطاء وما نزال غير منتبهين إلى ما نقع فيه منها لأننا ما نزال نظن أننا نتحدث بالشكل العربي السليم ، وهذا البحث محاولة لاستكشاف أشكال التأثير وللتعرف على ما تفرضه من تصورات تؤدي في النهاية إلى تكوين بنية للعقل العربي الحديث قد تقترب كثيرا من بنية العقل الغربي الحديث .
إنني أطلق على هذا المجال من التأثير مجال الاحتلال اللغوي الذي يترافق دوما مع الاحتلال العسكري وقد يسبقه ليكون ممهدا له في أحيان أخرى ، وقد يتبعه نتيجة الانبهار بمعطيات التقدم العلمي المعاصر ، فما نزال حتى اليوم نسمع من يكرر علينا مقولة اللحاق بالغربي المتطور مع أن هذه المقولة تضمر بين ما تضمر مبدأ أساسيا ألا وهو ضرورة التقليد وكأن لا مجال للتقدم سوى بتقليد الثورة الغربية العلمية المعاصرة ؛ ذلك الحلم الذي انقطعت أنفاسنا دون أن ننال جراء اللحاق به ومحاولة تحقيقه بأي طائل، وما بحثنا هذا إلا محاولة للتعرف على ذلك الاحتلال وهو يمارس دوره الثقافي ، وهو بالحري محاولة للتعرف على كيفية انتقال الأساليب الخطابية البلاغية العربية المعاصرة نحو الأساليب الغربية بعد المقارنة بينهما .
وتتعقد المسألة حينما نجد أن العرب المعاصرين وصلوا إلى حد التبشير بهذا الطابع الغربي فهذا سلامة موسى – القبطي - يقول لغتنا ( كأنها أحافير تحفظ وتصان كما تصان لغة الكهنة في المعابد عند المتوحشين )" " ولست أدري ما الذي يريده الأستاذ سلامة على العكس من الحفظ والصيانة أيعقل أن يريد منا ترك اللغة ؟ والمفجع في الأمر أن ذلك هو ما يريده بالضبط فهو يقول : ( وفي مصر طبقة من الكتاب حاولت ولا تزال تحاول استخدام اللغة العربية وسيلة من الوسائل الأدبية لاسترداد الأمس بل أن عندنا من اللغويين من يتحدث عن اللغة العربية كما يتحدث المستشرقون عن اللغة السنسكريتية إن هؤلاء ... الذين يحاولون هذا الإحياء للكلمات العربية حين كان يجب عليهم لو كانوا على وجدان بالعصر الحديث أن يدفنوها ... نحن ما زلنا نعيش بكلمات الزراعة ولما نعرف كلمات الصناعة ولذلك فإن عقليتنا عقلية قديمة ، جامدة ، متبلدة تعود إلى الماضي حتى أننا نؤلف في ترجمة معاوية بن أبي سفيان في الوقت الذي كان يجب أن نؤلف فيه عن هنري فورد عبرة الصناعة في عصرنا ... إن الكاتب حين يستبيح اعتناق الكلمات العلمية كما هي بلا ترجمة إنما هو في الواقع يستبيح حضارة العلم والمنطق والرقي بدلا من حضارة الآداب والعقائد والزراعة ... لقد أكثرت من المقارنات بين لغتنا واللغة الإنكليزية لكي أبرز للقارئ عيوب لغتنا وإرهاقها للمتعلمين بقواعد وتعاليم لم تعد لها فائدة )" " وقد نقلنا هذا النص المطول لنتبين الهدف المقصود من دعوة كهذه إلى نبذ اللغة العربية واستعمال اللغة الإنكليزية لغة العلم بدلا من لغة الزراعة والعقائد والآداب!!!.
وينتهي المطاف بسلامة موسى إلى التبشير بعدد الألفاظ الدخيلة فيقول ( سوف تزداد هذه الكلمات في المستقبل بالعشرات بل بالمئات وهذا تطور حسن لأن هذا الاتجاه يحدث القرابة الذهنية التي ستؤدي يوما إلى قرابة نفسية فلا يكون الشعور بالبعد والفرقة والانفصال ثم الانعزال فالعداء بين الشعوب وكل مصري بار بوطنه وبهذا الكوكب يجب ألا يعارض هذا الاتجاه لأن المعارضة في حقيقتها تعني عقوقا بحقوق البشر وعرقلة لاتحاد أبناء هذا الكوكب ورقيهم وباتخاذ هذه الكلمات نقرب من العقلية الكوكبية والثقافة الكوكبية وربما اللغة الكوكبية ... إن اتخاذ الحروف اللاتينية قد يضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة وتكسبنا عقلية المتمدنين ... ولا انتقص الفائدة من الخط اللاتيني في التعبير عن كلمات العلوم )" " راجيا زوال اللغة العربية والانخراط في العقل المتمدن الغربي ، ولا يمكن لقارئ أن يجد – حسب علمي – أسوأ من هذا المنطق الأعرج ، وقد أتينا على ذكره هنا لا لأهميته بل لأنه يمثل أسوأ ما يمكن أن يقوله شخص عن لغة أمة وثقافتها طوال عصور.
بل أن القارئ ليشعر بالعجب حينما يجد أن المثقفين الغربيين يتبادلون التهم بينهم حول اقتراض لغاتهم من لغات أخرى فيصبح الغربيون غيورين على لغاتهم بينما يحمل أصحاب لغتنا معولا من أجل هدمها ، فقد صرح فيكتور هوغو في مجلة المراقب الأدبي منذ عام 1826 بأن التوليد اللغوي ليس إلا علاجا بائسا للعجز" " ويهزأ هنري إستيان في كتابه ( تفوق اللغة الفرنسية ) من المقترضات الإيطالية ، كما ندد رينيه إيتيامبل عام 1964 في كتابه ( أتتكلمون الفرنسية الإنكليزية ) بالتعبيرات المقترضة من الإنكليزية " " مدافعين بذلك عن اللغة الفرنسية وخطورة الاقتراض اللغوي من الإنكليزية .
لا يمكنني الإدعاء أن العربي المعاصر يمكنه وبكل بساطة أن ينفض عن كاهله غبارا وشوائب علقت به منذ احتلال نابليون لمصر وربما منذ زمن أسبق ، ولكنني أعرض حالةً ، وأحللها لأستخلص منها النتائج واترك اتخاذ القرار بيد من يريد اتخاذه .
وأنا أتفق مع من يرى بأن (الانحراف في التراكيب اللغوية والأساليب الكتابية يعني بداية ظهور لغة جديدة)". " وهي لغة تراكمت فوقها العديد من محاولات الإفادة من اللغات الأخرى عبر عصور طويلة كان عصر الفتوحات الإسلامية أولها إذ (كان من الشاق العسير على الأجانب الذين اضطروا إذ ذاك إلى استخدام العربية أن يتابعوا القواعد والنظم المعقدة للجملة العربية القديمة فآثروا التصرف بوساطة أساليب التعبير التقريبية التي اعتادوها في لغاتهم الأصلية )" " بحسب كلام يوهان فك ، وهذه المحاولة قد أدخلت أولى العناصر الغريبة – الفارسية على الأغلب – إلى لغتنا العربية فأصبحت طريقة التعبير تختلف عن الطرق العربية القديمة في العهد الجاهلي ، وما أن حل القرن الرابع الهجري حتى ابتدأت تلوح آفاق تغير لغوي أخرى رافقتها تغيرات دلالية طالت الأدب واللغة والفلسفة وجميع الميادين ثم تلاه العصر الأندلسي ليلحق به العصر الحالي .
وقد أشار يوهان فك إلى ذلك قائلا ( اللغة التي كتب بها ابن المقفع ليست هي العربية القديمة فبموازنة هذه بتلك نجد لغة ابن المقفع سوية شفافة مبسطة حسب أغراضها وبدلا من الثروة الفياضة في الكلمات البدوية القديمة التي تجمع التنوع المتعدد الألوان لعالم الظواهر مع حشد من السمات الخاصة التي تصور مثلا فروق الحيوان والأعمار والأجناس والألوان والصفات والخصال البارزة خاصة كما تحتوي على قائمة خاصة من المفردات لأصوات الحيوانات، تكتفي لغة ابن المقفع إلى حد بعيد بالتعبيرات العامة وتؤثر تصوير الخصائص البارزة بعبارات مقاربة كما يعرب استعماله اللغوي في دائرة تركيب الألفاظ وصياغتها عن طموحه الدائم إلى التبسيط الموائم للغرض فكثير من صيغ الأسماء الغريبة في العربية القديمة يقل عنده أو ينعدم تماما وأخيرا نجد تركيبه النحوي كذلك واضحا شفافا وهو يتجنب كذلك عبارات التعجب والاستغاثة القصيرة المتعددة الدلالة في صيغها الاسمية والحرفية ويتفادى تصفيف الكلام والتداخل العسير الفهم)" " ويمكننا القول بأن اللغة على عهده اتجهت صوب استبعاد الكثير من الأسماء التي وضعتها العربية للأجزاء الصغيرة والأحوال الخاصة والاكتفاء ببعض الأسماء والأحوال العامة ، ولكن هذه السمة تظهر في كل عصر ، إذ يعمد كل عصر نحو استبعاد كلمات معينة والاستعاضة عنها بغيرها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram