الجسد بيت المعنى، وبيت اللذة والأخطاء والنياشين، وهذه التوصيفات تمنحه قدرة على ان يكون بؤرة الوجود والخلق، ولا معنى لتفوّق هذا الوجود خارج لعبة الجسد، لذلك هو اختصار لكل الأشياء التي تحوطه، وتخدعه او تراقبه او تتلصص على تحولاته وهزائمه...كينونة الجسد
الجسد بيت المعنى، وبيت اللذة والأخطاء والنياشين، وهذه التوصيفات تمنحه قدرة على ان يكون بؤرة الوجود والخلق، ولا معنى لتفوّق هذا الوجود خارج لعبة الجسد، لذلك هو اختصار لكل الأشياء التي تحوطه، وتخدعه او تراقبه او تتلصص على تحولاته وهزائمه...
كينونة الجسد كرست وجوده الأوحد، إذ لا شيء يحرر هذا الجسد سوى الجسد ذاته، فهو يملك وحده القدرة على التلذذ بالحرية، وعلى التمرد والخضوع، والبكاء والتذلل والخوف، والتباهي بالعري والنياشين او القمصان الملونة، او حتى التشهي الخفي بالقبلات والتلمسات والمدائح.. كل هذا يبيح للجسد امتلاك سلطة الاحتجاج والنفور والاتساع، والتأمل في وسائله المباحة والمضمرة بحثا عن الكيفية التي يمكن ان تموضعه في هذا اللعبة الفادحة.. هذه التجليات استحضرتها وانا أشاهد بعض لوحات الفنانة البوهيمية البريطانية تريسي إيمن، وهي تحاول عبر خطوطها- كما يبدو لي- استنطاق الجسد بوصفه بيت اللذة والخطيئة والاستعباد والخيانة والاستسلام والطغيان والوحشة والوحدة والضعف..
تريسي ، صاحبة المواقف الاحتجاجية الكبرى في نظرتها للصراع الاجتماعي والسياسي، ولمفهوم الجندر، ولحرية الجسد الذي تسحقه انسانيته بالاغتصاب والحرب والحصار، اذ شاركت العام الماضي في مظاهرة كبيرة لعدد من مثقفي العالم في لندن للاحتجاج على الحصار المفروض على فلسطينيي مخيم اليرموك في دمشق، كما ان لوحتها المشهورة(سريري) قد وصلت الى القائمة الصغيرة في جائزة تيرنر عام 1999، اذ حولت هذا(السرير الشخصي) الى عالم تسكنه أشباح الوحدة، والكآبات اليومية، حتى بات الأقرب الى اشتغالات السيمياء التعبيرية الموحية برعب الكائن وعبثه وفوضاه، وهي استكناه للخيبة واللا جدوى التي يعيشها الانسان المعاصر.. تريسي جعلت من جسدها عتبة ثقافية وجندرية لمواجهة محنة الاستبداد والقمع والاغتصاب، اذ تحوّل هذا الجسد الى قوة تجاوزت ما هو ايروتيكي، باتجاه ما هو تأملي، وما هو توليدي، بوصف ان نصّها التخطيطي والغرافيكي اصبح مجالا لتشكيل رؤيا، وللإيهام بموقف ما من الوجود والفكرة والأنوثة والسلطة، وهو ما بدا واضحا في التخطيطات التي شاهدت بعضها في ما عرض من أعمال معرضها الاخير( المكعب الابيض) اذ يوحي هذا المكعب بالحجر، وبالضيق والاحتباس، وكلها علامات تؤشر ما يعانيه الجسد من إقصاء وفقد..
في تخطيطاتها الباهرة لا تكشف عن ملامح الجسد والوجوه بوضوح، لكنها توحي بمهارة من يكتشف الفنان العالم عبر الوعي به، وعبر ان يجعل من اغترابه الداخلي هاجسا لتوضيح ما يراه من الوجود، اذ يظل هذ الوجود غامضا مادام الانسان يعيش الخوف والضعف، ويفتقد القدرة على التعبير عن ذاته..
تلامس تريسي جسد الأنثى، بوصفه الجسد الأكثر توهجا، والأكثر طغيانا، والأكثر ضعفا في الآن ذاته، لكن ما يميز هذا الخيار الأنثوي هو تشيؤه داخل فكرة(نصف التعري) وكأنها تقدمه بوصفه نصف الحرية، وان النصف الاخر هو الخاضع لقمع والوحدة والاستبداد، وهذا ما يستدعي مقابلات وموجهات فكرية ونفسية تستكنه حولات ما هو تعبيري، وتكشف عن ما هو مضمر في نسقيات القبح التي يواجه الانسان رعبها العصابي والسياسي..
خطوطها التعبيرية لا تقارب النص النسوي كمنظور فلسفي، بقدر ما حاولت ان تشخصن الجسد بوصفه القوة التعبيرية المكشوفة والمتورطة للأنثى، لذا اتكأت على فكرة صدمة المعنى، وعلى استثمار الطاقة التصويرية التي تتبدى عبر هذه الصدمة، ومن خلال ما تثيره من اسئلة اشكالية، ومن تتبع الاستيهامات ما يفرضه النسق المضمر للمهمش والاقصائي واليومي، ذلك الذي توحي به أطروحات مابعد الحداثة، وبكل ما تستدعيه من وسائل وأدوات ايصال وتفكير وتشظي، والتي تدفع باتجاه استحضار ثنائيات الرعب في سيميوطيقيا الوجود بين الجسدي والروحي، او بين التعبيري والحسي، او بين اليومي والعمومي، اذ تحيل المشاهد التي تقترح خطوطها الى الكشف عن طبيعة شخصية الأنثى التي تختارها، فهي المتمردة، الساخطة، الخارجة من هزائم روحية وجسدية، والمسكونة برهاب الرجل المغتصب، وصاحب البلدوزر الجنسي والاخلاقي..
النص الخطوطي عند تريسي هو نصي كتابي بكل ما تحمله الكتابة من شفرات سيميائية، ومن تلاوين، ومن سطوح، لكنها تضع فكرة الخطوط المكتوبة أمام رهان ما توحي به من أسئلة، وما تثيره من مواقف تستبطن أزمة الذات في عالم ضاج بالسعادات الصغيرة والاغتيالات الكبيرة، عالم يوهمنا دائما بسرديات الرعب، وسرديات الأنثى الوحيدة، تلك التي تجعل من تفاصيلها الصغيرة بواعث للإثارة، وللإحساس بغواية المكان، والخوف من الفقد والانتهاك الجسدي والروحي..واحسب ان لوحة السرير- سريري- المرسومة عام 1999 كانت إدانة لرعب الفراغ، ولفوبيا التوحش الذي يترك الجسد نهبا للوحدة والشيخوخة والإهمال، وعرضة للتعويضات الأكثر استعبادا وتشظية للجسد وللمكان/ السرير..
تريسي فنانة مذهلة نتعرف على لوحاتها لنكتشف رعب ما يعانيه الجسد الانثوي، وما يمكن ان يواجهه من حروب مضللة، ومن فجائع ما بعد الاغتصاب، اذ يحمل وحده أخطاء الكائن، وربما سيكون هو شفرة الجسد المتورط بسرديات ما بعد الحداثة، تلك التي لم تتحول بعد الى قوة صيانية للكائن، وان جلّ ما اشتغلت عليه هي عوالم الكائن الصغير، المشغول بالأوهام الكبرى، لكنه ايضا الغارق في اليومي واللاوضوح، فضلا عن كونه المسؤول عن الدعوة المرّة لاستكناه دوافع التغيير والرفض والخروج الى البرية دونما قيود او سلالات او آباء او سلطات تغتصب الكائن دائما.