بعد أشهر ستة ٍ من التحاقي بالقوّة الجوّية الملكيّة عدْتُ إلى الحياة المدنيّة ثانيةً و كان طردي من الخدمة في القوة الجوّية الملكيّة واحداً من أكثـر الأحداث الحاسمة في تشكيل حياتي القادمة، و شعرْتُ تماماً بما كان يشعرُ به السيّد بوللي Mr. Polly في رواي
بعد أشهر ستة ٍ من التحاقي بالقوّة الجوّية الملكيّة عدْتُ إلى الحياة المدنيّة ثانيةً و كان طردي من الخدمة في القوة الجوّية الملكيّة واحداً من أكثـر الأحداث الحاسمة في تشكيل حياتي القادمة، و شعرْتُ تماماً بما كان يشعرُ به السيّد بوللي Mr. Polly في رواية ويلز الشهيرة و رحْتُ أردِّدُ مثله " إذا لم تكنْ حياتك تروق لك فبإمكانِك تغييرُها " و كنتُ حتّى ذلك الحين أرى نفسي مثل كرة قدم يركلُها القدر كلّ وقتٍ و كيفما شاء : فقد اضطررْتُ للعمل في مهنٍ كثيرة لا تروقُ لي و كنتُ أتجرّعُ الضجر و القلق كنصيبٍ محتومٍ لا مهربَ لي منه في هذه الحياة.
وهنا حصل أنّ دافعاً صغيراً واحداً يتمثّلُ في قولي " لا ، هذا يكفي " أثبت فعلاً أنّه كان كفيلاً بتغيير كلّ شيء في حياتي ، و في حالةٍ من الحسّ التفاؤليّ الّذي أعقب قراري هذا اندفعْتُ في قراءة الأدب الرومانتيكيّ و كان التأثير الأعظم الّذي وجّه مسار تفكيري في هذه المرحلة من حياتي هو عمل رابليه Rabelais المسمّى ( Gargantua and Pantagruel ) الّذي صار يمثّلُ لي توكيداً لفِكرة " استشعار المتعة في العيش " و باتَ رابليه بالنسبة لي على الدوام أكثر من مجرد ذلك القسّ الفاجر الّذي كنت أقرأ عنه : فقد صار يمثل بالنسبة لي رمزاً للقبول البطوليّ للحياة . قادَني ولعي بعمل رابليه المترجم إلى الحلم المتواصل بالمكوث في جزر القدّيسين The Islands of the Saints و محاولة العثور على كوخٍ حجريّ قديم حيث يمكنني قضاء حياتي كلّها في التأمّل .
كانت واحدة من نتائج التفاؤل العقليّ الّذي غمرني هو قراري ترك سلك الخدمة المدنيّة إلى الأبد بعد أن ضقْتُ ذرعاً و نفد صبري مع حياة المكاتب الكئيبة ، و لكنّ والدي ارتعب من هذه الفكرة و رأى أنّني كنتُ أدمّرُ حياتي : فقد حصل من قبلُ أن انقلبْتُ على فكرة رغبتي في أن أكون عالماً ، و ها أنا أركلُ وظيفة مضمونة في عملي كجامع ضرائب ، و تساءل والدي " ما الّذي تبغيه إذن من حياتك ؟ " و عندما أخبرته أنّني أبتغي أن أكون كاتباً أجابني " و هل لديك فكرةٌ عن الكيفيّة الّتي ستكسبُ بها عيشك من وراء الكتابة ؟ " و هنا كان عليّ أن أجيب بوضوح " كلّا و لستُ أعلمُ شيئاً عن هذا " فما كان من والدي إلّا أن يأمرني بترك المنزل . عندما أستذكرُ اليوم تلك الفترة الحرجة من حياتي أرى أنّه ينبغي لي الاعتراف بأنّني لم أكنْ أحبُّ والدي كثيراً : كان رجلاً متصلّباً ذا شخصيّة مخيفة و آراء مقنّنة و ثابتة و كان هوسي بالقراءة يمثّلُ له حالة غير سويّة ، و أذكرُ أنّني استعملْتُ مرّة مفكّاً للبراغي أخذتُهُ من عُدّته اليوميّة و نسيْتُ إعادته إلى العدّة لاحقاً فعاقبني والدي بصفعات متتاليةٍ و بلا هوادة حتّى اهترأ وجهي لشدّتها. و منذ ذلك اليوم كرهتُهُ كراهيّة مستفحلةً ولم تغادرْني تلك الكراهيّة له في السنوات الّلاحقة ، وكنتُ كمراهقٍ أحبّ كثيراً الاستماع إلى المسرحيّات و الكونشرتات السيمفونيّة على المذياع ، وعندما كان والدي يعود من تناول حصّته اليوميّة من مشروب البيرة في الحانة القريبة من منزلنا كان يعمدُ فوراً الى تغيير مؤشّر المذياع إلى برنامج كوميديّ أو برنامج منوّعات ، و هكذا ترسّخت عندي فكرة عدم إمكانيّة وجود ابنٍ يحب أباه و لم تغادرني تلك الفكرة إلّا بعد أن أصبحتُ أباً .
كان عليّ في تلك المرحلة الحرجة من عمري أن أقرّر ما الّذي سأفعله لاحقاً ، و كانت لديّ نقود قليلة ادّخرْتها من خدمتي في القوّة الجوّية الملكيّة و لكنّها لم تكن لتكفيني طويلاً . و لكن برغم ذلك كنتُ في حالةٍ عقليّة تتفجّرُ سعادة ، والأهمّ من ذلك أنّني كنتُ واثقاً أنّ كلّ ما سيأتي سيكون مثيراً وباعثاً على البهجة . غادرتُ المنزل ذات يومٍ و أنا أرتدي الزيّ القديم للقوّة الجوّية الملكيّة وحاملاً معي بضعة كتبٍ من تلك المفضَلة لي : باغافاد غيتا ، و كتابي أفلاطون ( المحاورات ) و ( فيدو Phaedo ) ، و المجموعة الكاملة لأعمال وليم بليك ، و كنتُ أبتغي العثورعلى عملٍ كمساعد لمدير صالة عرض في أحد المسارح ، و فشلتُ في العثور على وظيفةٍ كهذه و أرى اليوم أنّ ذلك كان ضربة حظّ موفّقة في جانبي و لو حصل و مضيْتُ لأكون ممثّلاً أو عاملاً في المسرح لأقلعْتُ تماماً عن فكرة الكتابة لاحقاٍ . قضيْتُ أسبوعيْن و أنا أعملُ في قطاع البناء ، و بعد أن جمعْتُ عشرة جنيهاتٍ إسترلينيّة قرّرتُ الذهاب إلى ساوثهامبتون عبر خدمة طلب التوصيل المجّاني وعلى أملِ أن أجد هناك مركباً يأخذني إلى الهند : كنت معبّأً آنذاك بتعاليم الغيتا ومسحوراً بالنصوص البوذيّة وراقت لي فكرة أن أصبح ( تاثاغاتا Tathagata ) أو الجوّال هناك كما راودتْني الفكرة الرومانتيكيّة في قضاء ليلةٍ في موقع ( ستونهنج Stonehinge ) الّذي رأيته مصوّراً في كتاب بليك عن أورشليم Jerusalem ، فمضيْتُ إليه ورأيتُ المكان مسوّراً بأسلاكٍ شائكة كان يتوجّبُ عليّ تسلّقها ، و كان اليوم وقتها صيفيّاً حارّاً و لكن مع اقتراب الساعة الثانية بعد الظهر انخفضت درجة الحرارة كثيراً وراحت أسناني تصطكّ ، لذا مضيْتُ و اضطجعْتُ على كومة من القشّ في حقلٍ مجاور و كنتُ أتأمّلُ النهوض قبل فجر اليوم التالي لمعاينة شروق الشمس لكنْ حصل أنّني نهضْتُ متأخّراً كثيراً تحت وقْع وخزات إبر القشّ الّتي انغرزت في جسدي كلّه ، و عندما رأيتُ في موضعٍ قريبٍ علامةً تشيرُ إلى إحدى ثكنات القوّة الجوّية الملكيّة قرّرتُ على الفور أن أحاول الذهاب هناك والحصول على وجبة إفطارٍ مجّانيّة ، و في الّلحظة الّتي وصلتُ فيها الثكنة مضيْتُ إلى غرفة الحرس وشرحْتُ لهم أنّني صُرِفْتُ من الخدمة في القوة الجوّية الملكيّة و أنّني بانتظار الحصول على أوراق صرفي النظاميّة من الخدمة و لا أعلم ما الّذي تسبّب في تأخيرها ، و قد عاملني الحرّاسُ بكياسةٍ و قدّموا لي الإفطار والغداء المجّانيّيْن ولكنّهم أبقوني قيد الانتظار حتّى يتسنّى لهم الاتصال بدائرة الشرطة في ليستر والتحقّق من أمري ، و لكمْ أن تتصوّروا كم كانت والدتي منزعجة عندما طرق رجل شرطة باب منزلنا للسؤال عن مدى مصداقيّة أقوالي فطلبتْ منه والدتي أن يعيدني إلى المنزل . وهكذا وجدْتُني بعد أربع وعشرين ساعة في منزلنا ودهشْتُ لرؤية أنّ أجواءه باتت أكثر هدوءاً و لم يكن ثمّة حديثٌ عن طردي خارج البيت ثانية . كان الصيفُ حارّاً للغاية ذلك الوقت وعملتُ لأسبوعيْن لاحقيْن في ميدان البناء ولكنّي تعبْتُ و ضجرْتُ تماماً فمضيْتُ إلى مكتب استعلامات العمل في طلب وظيفةٍ جديدة ، و لم أشعر بأيّ تأنيب ضمير من جراء تغيير أعمالي بين حينٍ و آخر إذ لطالما تساءلْتُ " لِمَ عليّ أن أظلّ مقيّداً إلى ذات العمل الغبيّ حتّى أصبح ضجراً ومستنفد القوى كلّياً ؟ " ، و هكذا وجدتُ نفسي بعد بضعة أيّام أعمل بائعاً متجوّلاً لبطاقاتِ معرضٍ افتتحَ حديثاً و يقع في ضواحي ليستر .
حدث مساء أحد الأيّام أنْ وقفت أمامي فتاة بدتْ لي في الثانية عشرة و راحت تحدّقُ فيّ بتمعّن غريب ، و عندما سألتها إنْ كانت ترغبُ في شراء بطاقة من بطاقاتي أجابتني " هل تريدُ أن تبيع نفسك ؟ " !! ، و كانت حقّاً فتاة جميلة ذات وجهٍ بيضويّ مع شيء من حمرة خفيفة باردة على شفتيها ، و عزَمَتْ على انتظاري حتّى أفرغ من عملي ثمّ مشينا سويّة إلى منزلها الّذي يبعد بضع عشراتٍ من الأمتار وودّعتها أمام باب المنزل بقبلة . كان اسم الفتاة ( ماري ) و عرفْتُ من طريقة سلوكها معي أنّها كانت تعتزِمُ أن تجعلني أطارحها الحبّ إلى أقصى مدياته ، و اكتشفْتُ لاحقاً أنّ ماري في السادسة عشرة وهي تقيمُ في مقاطعةٍ قريبةٍ من مجمّع الغجر وتنطقُ بلهجة أهل ليستر المعهودة ، وكنتُ واثقاً أنّ رغبتي الجامحة في الجنس سيتم إشباعها عمّا قريب . ذهبْتُ صباح اليوم التالي لممارسة عملي كعادتي كلّ يوم فأخبِرْتُ بالاستغناء عن خدماتي فكانت فرصة لي لأن أعود أدراجي لرؤية ماري الّتي وجدْتها بائسة و منتحبة و علمْتُ أن أباها طردَها من المنزل لأنّها عادت الليلة الفائتة بعد حلول الظلام ، و أنّها حاولت أن تبحث عن منزلي ففشلت في العثور عليه ولحسن حظّها قضتْ ليلتها في فراشٍ دافئٍ وفّرتْهُ لها إحدى السيّدات المحسِنات الّتي تقطن في منزلٍ لا يبعدُ كثيراً عن منزلنا ، و هكذا وجدْنا أنفسنا - أنا و ماري – صباح ذلك اليوم جالسيْن في كافيه وضيعة وسألتْني ماري إنْ كنتُ راغباً في الزواج منها فصعقْتُ لسماع هذه الفكرة الّتي جعلتْ قلبي يغوصُ بين ضلوعي : فقد كان آخر أمرٍ أفكّرُ فيه هو زوجة مراهقة !! . تمالكْتُ نفسي و أجبتُها أنّني سأسعى إلى رؤية أمّها للحديث حول الأمر ، وعندما ذهبْتُ لرؤية أمّها أخبرتّني أنّ باستطاعة ماري العودة للمنزل ثانية و كان ذلك مبعثَ راحةٍ عظمى لي ، و انطلقْتُ فوراً لرؤية ماري و إخبارها بالأمر و عندما أخبرتُها لمحتُ إشراقة الابتهاج في عينيها و كان نصيبي من الابتهاج العظيم لا يقل عن بهجة ماري بعد أن تيقّنْتُ من العودة إلى عالمي الجميل الّذي لا أُطيقُ فراقهُ أبداً : الشّعرُ و الموسيقى و الفلسفة .
راحت ماري تحلُمُ أحلام يقظةٍ مُبهجة وترى نفسها زوجةً مستقبليّة لكاتبٍ كبير يُقيمُ في لندن طبقّت شهرته الآفاق ، و كانت تطمحُ أن تكون أمّها قريبةً منها و لكنّي في الحقيقة تعبْتُ من كلّ الحبّ و التقبيل اللذيْن كنا نتطارحهما ، و رغبُت بشدّة في العودة إلى منزلنا و الانغمار في الكتابة ومن بعدها الجلوس بأرجلٍ متقاطعَةٍ ( متربعا) على أرضيّة غرفتي وممارسة التأمّل حسب . أبانتْ لي علاقتي مع ماري واحداً من الأسرار المخفيّة : فالطبيعةُ عادةً ما تُغري خطّافنا الجنسيّ بنوْعٍ من العسل المُشتهى الّذي يغدو بعد حينٍ سُمّاً نُدمِنُهُ و يملأنا مذاقه بذلك الإحساس المتفجّر من الشهوة اللذيذة وعندها يبدأ العقلُ في اشتهاء كلّ ما يشبِعُ شهيّته من المُحرّمات بعيدة المنال وأنّ من المثير للغاية معرفةُ أنّ أكثر المتطهّرين عفّةً لن يشعروا بتلك الشهوة الجامحة تجاه زوجاتهم ما لم تمسسهُم شرارةٌ من تلك اللذّة المشتهاة .