2-2
إضافة إلى شهرة الاثنين، المصور وموضوعه، هناك أمر آخر مشترك جمع بين السويسري رينيه بوري والأرجنتيني تشي غيفارا. هو أن الاثنين لم يستسلما لضيق محيطهما الاجتماعي. الرجلان، اللذان - كما سيثبت لاحقاً – بديا وكأنهما وُلدا وجينة الطموح في دمهما، أرادا الخروج إلى العالم، تنفس هواء آخر، غير الهواء الذي غلف حياتهما، طبعاً كل واحد على طريقته. تشي غيفارا الذي عمل طبيباً في بدايات حياته، ثم مصوراً فوتوغرافياً لوكالة أميركا اللاتينية للصحافة، لم يواصل البقاء في بلاده الأرجنتين، مثلما لم يستسلم لاحقاً حتى لحياة الوزير التي كان عليه أن يمارسها بعد نجاح الثورة في كوبا، وبعد أن نزل إلى العاصمة الكوبية هافانا مع رفاقه الآخرين، من فيدل كاسترو وغيرهم من سلسة جبال السيرا مايسترا، حيث قادة الثورة المسلحة ضد حكومة باتيستا، بل فعل كل شيء، ليصبح المواطن العالمي، جوال الآفاق والأحراش، يتنقل من قارة إلى أخرى، من بلاد إلى أخرى، مرة في أفريقيا، وفي مرة أخرى في أميركا اللاتينية. رينيه بوري، من طرفه، الذي درس التصوير الفوتوغرافي في بداية سنوات الخمسينات في مدينة زيوريخ عند المصور الفوتوغرافي السويسري "الموضوعي الجديد" ( كما أطلق عليه نقاد فن التصوير الفوتوغرافي) هانز فينزلير في المدرسة المهنية للفن في زيوريخ، لم يبطل من توقه إلى مغادرة وطنه سويسرا، وشكراً لصداقته الحميمة اللاحقة التي جمعته بعد تخرجه مع المصور الصحفي السويسري المعروف آنذاك فيرنير بيشوف (كانت صداقتهما حميمة جداً لدرجة أنه تزوج فيرنير بيشوب عندما توفى زميله عام 1954)، التي سهلت له الانطلاق إلى العالم الفسيح، إلى خارج حدود ليس سويسرا وحسب، بل خارج حدود قارة أوروبا.
فيرنير بيشوف كان هو الذي توسط لرينيه بوري لكي يبدأ بالعمل مع وكالة التصوير الفرنسية المشهورة "ماغنوم" للتصوير. في عام 1956، المرحلة الأولى من عمله، أصبح عضواً مراسلاً هناك، بعد ثلاث سنوات من نشاطه المتقطع في البداية، تبعت عضوية كاملة. إذ منذ ذلك الحين راح رينيه بوري يتنقل من مكان إلى آخر، من بلاد إلى أخرى، بتكليف من وكالة التصوير "ماغنوم" ومجلات عالمية مشهورة مثل "لايف" و"باريس ماتج"، دائماً كان رينيه بوري في زاوية ساخنة من العالم، شاهداً بعدسته على ما يحدث هناك. صوره البرية التي جاء بها من الصين، صوره الأخرى من اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية تحولت مع مرور الزمن إلى حجر أساس في فن الريبورتاج التصويري الحديث. أما تنويعاته الغرافيكية الهارمونية، خاصة تلك اللقطات التي صورها في حرب الأيام الستة، فقد بدت مثل لوحات تجريدية، إذا لم تجعل منه أحد أكبر صحفي التحقيق المصور في القرن العشرين.
بعض النقاد يعيبون عليه المبالغة "الأستيتيكية القوية" بتصوير الحقيقة. كان رينيه بوري بالنسبة لهم، قبل كل شيء، داندي بعقل حساس. شخص، من المستحيل أن يغادر البيت دون قبعة بنمية ومنديل في أعلى السترة، والذي يفضل في وقته الحر الانشغال مع الكولاج والغرافيك منه على "الانشغال مع الواقع العاري". لكن في كل الأحوال ومهما ألحقوا به من نعوت، لم يقلل ذلك من سمعته بأنه كان إلى جانب روبرت كابا أو هنري كارتيير بريسون أحد أواخر ديناصورات وكالة ماغنوم الأسطورية للتصوير. في يوم الاثنين 20 تشرين الاول 2014 توفى بوري عن عمر ناهز 81 عاماً بعد صراع طويل مع مرض السرطان، لكن اسمه المكتوب على صورة تشي غيفارا سيبقى يطوف العالم، طالما هناك عالم ما يزال يعيش انشقاقه، حتى بعد موت الاثنين: الثوري ومصوره.
الثوري ومصوِّره
[post-views]
نشر في: 16 ديسمبر, 2014: 09:01 م