الدراما ـ سينما ومسرح وتلفزيون ـ هي احدى اهم وسائل بث ونشر الوعي والتحضر والانفتاح على العالم، ومتى ما يعي القائمون على الدراما هذه الحقيقة ويؤمنون بها ستنبثق الأفكار وتنطلق الجهود للنهوض بالواقع الفني عموما والدراما بشكل خاص .. الا ان بقاء الدراما ت
حميدة العربي
الدراما ـ سينما ومسرح وتلفزيون ـ هي احدى اهم وسائل بث ونشر الوعي والتحضر والانفتاح على العالم، ومتى ما يعي القائمون على الدراما هذه الحقيقة ويؤمنون بها ستنبثق الأفكار وتنطلق الجهود للنهوض بالواقع الفني عموما والدراما بشكل خاص .. الا ان بقاء الدراما تحت رحمة الفضائيات يقلل من فرص النهوض بها ولن يؤدي الى رفع مستواها او تطويرها. فالفضائيات ـ وهي الجهات المنتجة الوحيدة حاليا ـ تنتج أعمالا لاستهلاكها الخاص وعادة ما تعكس هذه الأعمال إرادة وتوجهات أصحاب تلك الفضائيات او المسؤولين عنها دون الأخذ بنظر الاعتبار مصلحة الدراما بصورة عامة..
حيث يتم التعامل مع الأعمال الدرامية بأسلوب إداري بحت، اذ تعتبر جزءا من الإنجاز الوظيفي للفضائية وليست حالة فنية قائمة بذاتها .. فما يهم الموظف هو تعزيز مكانته أمام المسؤول الأعلى وكسب رضاه بإنتاج اكبر عدد من المسلسلات دون الاهتمام بالنوعية والمستوى الفكري والفني لتلك الأعمال.. وليست هناك تقاليد عمل ولا أساليب حديثة في التعامل بين الجهات الفنية والإعلامية وبين أقطاب العملية الفنية ـ كتّابا ومخرجين وممثلين وفنيين .
لذا ينبغي الخروج من عباءة الفضائيات والعمل في فضاء اكثر حرية وانفتاح وتخصص.. ولكن لحد الآن لم يهتم احد ما او جهة ما بمسألة خصخصة الإنتاج الدرامي ..
يختلف العراقيون في ابسط الأمور وتنتهي شراكتهم ـ ان وجدت ـ بسرعة ، ولأن الفنانين اكثر الناس مزاجية وحساسية لذا فان من الصعب ان يجتمعوا ويتفقوا على تأسيس شركة انتاجية ـ كما حصل مع الدراما السورية التي نهضت وقفزت الى الأمام بخطوات سريعة وإيجابية بفضل فنانيها وشركاتهم الأهلية المتخصصة ـ وايضا ليس لدينا رجال أعمال يغامرون بأموالهم في مجال الفن، كما فعل طلعت حرب مع السينما المصرية في ثلاثينات القرن الماضي
وفعليا ليس في الساحة الفنية ـ الآن ـ من جهة منتجة سوى قناة العراقية ـ شبه الرسمية ـ ربما بسبب ميزانيتها الضخمة ! وهي كما غيرها تفكر بملء ساعات البث بمواد من انتاجها، والمسلسلات افضل تلك المواد لطولها وإمكانية إعادتها لمرات كثيرة.. وما إعلانها عن حاجتها الى نصوص درامية الا دليل على عدم التخصص وقلة الدراية والمعرفة في مجالي الدراما والإعلان معا فقد وضعت في إعلانها شروطا ليس فيها نوايا او ملامح لتطوير الدراما او الاهتمام بها كجزء أساسي من الحركة الفنية .
ان إعلان قناة ما حاجتها الى نصوص درامية خطوة ايجابية وجيدة اذا كان الهدف منه اكتشاف مواهب وأسماء جديدة في عالم الكتابة الدرامية، وضخ الدراما بأفكار ومواضيع متنوعة لدفعها الى الأمام وإخراجها من الدائرة الضيقة التي حصرت نفسها ـ او حوصرت ـ بداخلها . لكن إعلان قناة العراقية بخصوص حاجتها الى نصوص درامية تضمن شروطا تثير الاستغراب والتعجب، منها مثلا:
تشترط حضور الكاتب شخصيا ومعه الحلقات الثلاثين مطبوعة على ورق اضافة الى سي دي.. ما معنى ان يحضر الكاتب وبهذه الصورة الإلزامية؟ يبدو الأمر وكأنه تحقيق او إصدار وثيقة رسمية ولذا يتطلب حضوره للتأكد من شخصيته و وجوده، او ان الإعلان موجه الى الكتاب المقيمين داخل العراق فقط ـ نتمنى ان لا يكون ذلك هو القصد ـ والا هل نسيت القناة او تناست ان التعامل والتواصل يتم حاليا عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة ولا تحتاج أية عملية تواصل او اتصال الا لرسالة الكرتونية ـ ايميل ـ وهذا لا يستغرق الا بضع دقائق ويوفر على القناة والكتاب وقتا وجهدا.
ولنتصور مجموعة من الكتاب وهم يدخلون الى القناة معا وكل واحد منهم يحمل ثلاثين حلقة على الورق فماذا ستفعل القناة معهم؟ تضعهم في طابور وتنادي عليهم واحدا واحدا؟ ام ستجمعهم في قاعة كبيرة مثل تلاميذ المدارس ثم يضع كل واحد منهم حلقاته الثلاثين أمام المسؤول ويخرج؟ حقيقة ان هذا الشرط يدعو الى الضحك والبكاء معا، الم تسمع القناة او من وضع الإعلان ان هناك تكنولوجيا يتم التواصل من خلالها مع الآخرين اينما كانوا وبسهولة ؟ الم تفكر باختصار الوقت والجهد بوضع ايميل خاص ترسل عليه النصوص كما تفعل كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المتطورة، والقناة ـ نفسها ـ وسيلة تكنولوجية حديثة والمفرض انها اول من يطبق تلك الوسائل الحديثة.
الشرط الثاني ان يقدم الكاتب سيرته الذاتية وتتضمن إنجازاته في مجال الدراما وهذا يعني ان الإعلان موجه الى أصحاب الإنجازات الدرامية فقط وهم هنا الكتاب المعروفون لدى الجمهور والقناة المعلنة، إذن لا داعي لهكذا إعلان فبإمكان القناة الاتصال بهؤلاء الكتاب ـ أصحاب الإنجازات ـ وتكليفهم بكتابة نصوص لها .
والمفروض ان تكون الدعوة موجهة الى كل من لديه إمكانية في الكتابة، من المعروفين أصحاب الإنجازات ومن غير المعروفين، وذلك لضخ دماء جديدة في عالم الدراما وفسح المجال أمام الشباب والنساء.. والسؤال المهم هنا متى تصبح لدى الكاتب إنجازات اذا لم يمنح فرصة ما، وهكذا إعلانات قد تكون فرصته الوحيدة فلماذا توضع شروط تعجيزية وغير منطقية تغلق الطرق أمام الكتّاب الجدد؟ فالكاتب الجديد لا يعطى فرصة لإيصال نصوصه .. لا من خلال الإعلانات ولا من خلال التعامل الشخصي. الشرط الثالث ان تكون المواضيع مناسبة لتوجهات القناة في أعمالها الدرامية مثل الديمقراطية والتسامح .. الخ لكن المتابع للأعمال التي أنتجتها القناة خلال السنوات الماضية يلاحظ ويكتشف انها ـ بأغلبها ـ تركز على ما كان يدور في زمن النظام السابق فقط وتفضل مواضيع العنف والقتل والتعذيب والخطف.. الخ وتمتلئ بالأفكار الرجعية التي ترسخ النعرات القبلية والعشائرية، وتغيب عنها العلاقات الاجتماعية المتحضرة والجمال والروح العصرية، وتخلو من الفرح والتفاؤل والذوق الرفيع .. فلا عجب ان يلجأ المشاهد العراقي الى الأعمال التركية والعربية ويعزف عن الأعمال العراقية التي تعذبه بمواضيعها العنيفة الكئيبة وتوتر أعصابه بأسلوبها المتشنج وحوارها الهابط الخالي من أية لمحة أدبية والبعيد عن التمدن، وطرحها الممل لنفس الأفكار ونفس الأحداث لنفس الفترة الزمنية.
وحتى مسألة إعلان الأجور بهذه الطريقة التجارية ستدفع الكتاب الى تطويل مدة الحلقة لتصبح ساعة لكي يكسبوا المبلغ الأكبر.
ان إعلان قناة العراقية حاجتها الى نصوص درامية اما ان يكون دعائيا غير جاد وان النصوص ستؤخذ من الكتاب المعروفين، أصحاب الإنجازات، وتهمل نصوص الآخرين.. الجدد، او ان من وضع شروط الاعلان بهذه الطريقة التقليدية غير المدروسة، لا يعرف الحداثة ولم تصله التكنولوجيا بعد!
ان مسألة تطوير الدراما ورفع مستواها ليست مسؤولية جهة واحدة او مجموعة أشخاص، انها مسؤولية الجميع، اي كل من له علاقة بالأمر .. من وزارة الثقافة الى نقابة الفنانين والمعاهد الفنية ودوائر السينما والمسرح والفنانين انفسهم وحتى وزارة السياحة ـ ان اخذ الأمر بجدية ـ والاهم تشجيع الاستثمار في المجال الفني وتوفير الأجواء المناسبة والحرية الكافية والدعاية المطلوبة، ورفد الدراما ـ وباستمرار ـ بوجوه جديدة في كافة الاختصاصات.