TOP

جريدة المدى > عام > التعليم العالي في العراق إلى أين؟ ..حين يسقط المعيار الأكاديمي فـي تعيين المسؤولين أكاديميين (6)

التعليم العالي في العراق إلى أين؟ ..حين يسقط المعيار الأكاديمي فـي تعيين المسؤولين أكاديميين (6)

نشر في: 19 ديسمبر, 2014: 09:01 م

ونحن ندخل هنا مقالنا السادس ضمن سلسلة مقالاتنا عن واقع التعليم العالي في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، وإلى حد ما خلال أكثـر من عقد من الزمن، وباسترجاع جل ما سبق، نشير هنا فقط إلى صور الأكاديمي الحقيقي والفعل الأكاديمي الحقيقي، كما رأيناهما في

ونحن ندخل هنا مقالنا السادس ضمن سلسلة مقالاتنا عن واقع التعليم العالي في العراق خلال السنوات القليلة الماضية، وإلى حد ما خلال أكثـر من عقد من الزمن، وباسترجاع جل ما سبق، نشير هنا فقط إلى صور الأكاديمي الحقيقي والفعل الأكاديمي الحقيقي، كما رأيناهما في جامعات غير عراقية، وصور التجاوز الذي تمارسه الغالبية العظمى من المسؤولين الأكاديميين العراقيين للسياقات الأكاديمية، كما نزعم أن الأمثلة العملية الكثيرة التي عرضناها في المقالات السابقة تقدمه لنا، وكما ستقدمه أمثلة أخرى ستأتي في سياق التالي من المقالات.

 
واستناداً إلى هذا كاد تجاوز السياقات الأكاديمية من المسؤولين الأكاديميين العراقيين أن يصير هو الأصل في جامعاتنا، وضمن ذلك التجاوز على أحد أهم ضوابط موجودة في جامعات العالم أجمع، وهو اللقب العلمي، بحيث كاد تولّي التدريسي الجامعي، مهما كان لقبه، لأي منصب أكاديمي يصير معتاداً، وإذا ما صار هكذا فعلٌ معتاداً فاقرأ على الجامعة السلام، كما يقولون، وربما لن تلحق حتى قراءة هذا السلام، لأن التداعي، في هذه الحالة، يكون بشكل متسارع عادةً، وستتداعى بعده وبشكل متسارع التجاوزات، وهو ما نظنه يتحقق بكثرة فعلاً. ولكن، لنكن متأنّين قليلاً في بناء أي شيء على هذا، فنتساءل، في ظل هكذا ظاهرة: هل من الممكن أن نجد أمثال الأكاديميين الحقيقيين والأفعال الأكاديمية الحقيقية، التي تُمارس في جامعات العالم، في جامعاتنا؟ نعتقد الموضوعية والتعالي على الانحياز غير العلمي تجعلنا نجيب بنعم بكل تأكيد، لكنها- نعني أمثال الأكاديميين الحقيقيين والأفعال الأكاديمية- انحسرت كثيراً أمام تقدّم أو تقديم الذين (كوّشوا) على المناصب في التعليم العالي العراقي. هذا يقودنا بالضرورة إلى تساؤل تالٍ، وهو: ما الذي يقود المسؤول الأعلى إلى اختيار رؤساء المؤسسات والمراكز والأقسام العلمية وغيرها التابعة له، ما دمنا نجده يتجاوز اللقب العلمي الذي واضح أن الغالبية لا تعطيه الاعتبار الذي يستحقه، إن لم نقل إن البعض، وهو يفتقد اللقب أو الكفاءة، يستخف به؟ هذا ما نحاول في مقالنا هذا، أن نجد له جواباً، من خلال ما تنطوي عليه أفعال المسؤولين الأكاديميين وسلوكياتهم ضمن إدارة مؤسساتهم.
الواقع أن حقيقة سوداء تتجسم أمامنا ونحن نرى طبيعة أفعال هؤلاء المسؤولين، وضمنها اختيار مسؤولي الدوائر والأقسام، لاسيما العلمية، التابعة لمؤسساتهم، ومرة أخرى حتى ونحن نتجاوز شرط اللقب بعد أن تبيّن من التجربة أنه لا يكاد يعني أي شيء حين يعيِّن المسؤول الأعلى مسؤولي الدوائر المتفرعة من مؤسسته العليا. ومن المفيد أن نشير، حين نفهم من اللقب العلمي، إلى جانب التخصص العلمي والتاريخ العلمي والعمر الأكاديمي، الكفاءة والتجربة والإنجاز، إلى أن هذا التجاوز لا يقتصر على التعليم العالي فحسب بل هو يكاد يعم تعيينات مسؤولي الدولة ومؤسساتها جميعاً، بدءاً من الوزير فالوكلاء والمدراء العامين ووصولاً إلى رؤساء الأقسام المتخصصة، وهو ما نظنه أوضح من أن يحتاج إلى التدليل في غالبية وزارات الدولة، كما هو، مثلاً، حال وزارات الدفاع والداخلية- سابقاً- والثقافة والمالية والتربية، وبالطبع التعليم العالي. والحقيقة أن هذا، بوصفه ظاهرة، يكاد يكتسب ثباتاً، وكأنه قد جاء نتيجة تراكمية وإرثاً من الأنظمة المتوالية على حكم العراق خلال أكثر من عقد من الزمن، وهي تعتمد المحاصصة العرقية والقومية والطائفية وصولاً إلى السياسية، فما عدنا نستغرب، تعلقاً بالتعليم العالي، حين يتم اختيار أي مسؤول لأي مؤسسة أكاديمية. وكما قلنا، إن طبيعة الكثير من هؤلاء المسؤولين وأفعالهم وطرق إدارتهم لمؤسساتهم ولتعيينهم مسؤولي الدوائر والأقسام التابعة لهم تكشف عن مأساة هذه الاختيارات. وأعتقد أن أمثلة ذلك من الكثرة بحيث يستطيع أيٌّ منّا أن يأتي بسلسلة طويلة منها، كما فعلنا نحن ذلك في مقالاتنا السابقة، ونفعل في هذا المقال، وسنفعل في المقالات التالية. فقد شهدنا رئيساً لإحدى الجامعات، وأمام الملأ والكاميرات، وهو يعتدي على طلبته كما لا نجده في أكثر البلدان تخلفاً. ورأينا رئيس جامعة أخرى لا يمتلك المنظور الصحيح لرفع مستوى جامعته فيرى توجيه شكر لأصحاب الإنجازات المتميزة من الأساتذة، كافياً لتحقيق ذلك، بينما يبادر رئيس جامعة قبل بضع سنوات باستدعاء مجموعة من الأساتذة المتميزين بإنجازاتهم العلمية، وكنت أنا شخصياً منهم، إلى الجامعة، لتكريمهم. فماذا كان التكريم؟، جُمعنا في إحدى القاعات لنبدأ بتسلم اتصال من مكتبه كل ربع ساعة أو نحوها ليبلغنا مرة بأنه سيأتي، وثانية بأنه يعتذر عن التأخير، وثالثة بأن انشغالاً طرأ عاقه عن القدوم، وما كان علينا إلا تحمّل المهانة بالانتظار، حتى حُسم الأمر بأن تم تكليف أحد العمداء ليسلمنا التكريم الكبير، قلمَ حبرٍ ما بقي أحد يستعمله هذه الأيام، ولهذا بادرت أنا شخصياً إلى إعطائه لأحد المستخدمين قبل خروجي من الجامعة عسى أن يبيعه ببضعة آلاف من الدنانير. فمعروف أن التكريم إما أن يكون معنوياً ليشمل استقبال المسؤول لك أو تقليدك وساماً أو إعطاءك درعاً؛ أو أن يكون عبارة عن شهادة شرف أو جدارية أو تمثال صغير أو ما أشبه، أو أن يكون مالياً؛ أو وظيفياً، ترفيعاً أو قِدماً. فماذا نال المكرّمون من هذا كله؟ واضح أنه استهانة بهم والأهم بمنجزاتهم العلمية التي يُفترض أن (تكريمهم) كان. وفوق ذلك نرى رئيس جامعة أخرى يبخس تخصصات بعينها بل يتعالى عليها ويهينها، بسبب من قصر نظر من الواضح أنه ناتج من كونه لا يمتلك ثقافةً وفكراً يتخطيان حدود تخصصه، عليها. وغير ذلك، رأينا كيف أن عميداً لإحدى الكليات لا يستطيع تكليف أستاذ عنده بمسؤولية مجلة الكلية، بينما نرى عميداً آخر، وكأنه يأتي من خلفيات أمنية وليست علمية وأكاديمية، يقرر، في بعض أبكر قراراته، غلق أي منفذ بين كليته والكليات المجاورة له، بل لا يكتفي بذلك فيبدأ بتضييق حتى منافذ بين بعض أقسام كليته، ويتجرأ عميد آخر، كما لا نظن أكاديمياً في جامعات العالم يمكن أن يتجرأ، على تعيين معاون عميد للشؤون العلمية بلقب مدرس. 
ونعتقد معروفٌ جداً رضا عمداء آخرين على إزالة كلياتهم من الوجود، ليُبدأ، بعدها، بما يشبه التأسيس الجديد لها، نعني بذلك تحديداً كليتي الزراعة والطب البيطري، حين تم محو تاريخ أكاديمي علمي منتِج ومثالي بنقل الكليتين من حرمهما في أبو غريب إلى الجادرية بقرار لا نعرف مرجعياته، ولكننا نعرف أن عميدي الكليتين لم يرتضيا ذلك وأقدما على الفعل الشجاع الذي ندر من أقدم عليه، رافضين التضحية بالأكاديمية والمصلحة العلمية وبإعدام تاريخ علمي لحساب كرسي المنصب، وفضّلا التنحّي عن منصبيهما، على الأقل لكي لا يكونا شاهدين على جريمة كانا يريان أنها ستقع في حرمي الكليتين، ولم يترددا في فعل ذلك حتى وهما يريان رئيس الجامعة، وعلى عكسهما، يفضل كرسي المنصب على الأكاديمية فيرتضي أن يُزال تاريخ، وعلى أية حال كان سهلاً عليه، وعلى الوزير، إيجاد عميدين جديدين يرتضيان بأي شيء ما داما يحصلان على كرسيَّي العمادتَيْن، مما يؤكد ما قلناه من أن الغالبية العظمى من مسؤولي مؤسساتنا الأكاديمية، رؤساء جامعات وعمداء ومعاونين ورؤساء أقسام، هم من غير الناجحين في امتحان المفاضلة ما بين الأكاديمية وكرسي المنصب. وهكذا سكت رئيس جامعة وعميدان وأساتذة كبار، ولم يعترضوا جميعاً وهم يرون ذلك القرار لا يحطم الكليتين فحسب، بل يخطّ تاريخاً مخجلاً نأمل أن يأتي من يسعى لإزالته من تاريخ الجامعة والتعليم العالي في العراق، قبل فوات الوقت. 
وأخيراً نُفاجأ برئاسة جامعة، رئيساً ومعاونين، لا يعرفون شيئاً عن أصول وتقاليد المؤتمرات العلمية تنظيماً ومشاركة، فيفرضون من التعليمات المركزية المعروف عدم ملاءمتها للعمل الأكاديمي، لإقامتها وللمشاركة فيها، ما يصعُب تطبيقها على من لا يرتضي المهانة التي يلاقيها نتيجة لذلك. هنا أتذكر أنني شخصياً قدمتُ طلباً للمشاركة في مؤتمر في الأردن، مع أن المؤتمر كان سيُقام في العطلة الصيفية، وذلك اعتزازاً مني بجامعتي وكليتي، ولكني حين شهدتُ في سلسلة مراجعات الجامعة ومسؤوليها كل ما هو بغيض ويمس أكاديميتي، عدلتُ عن طلبي وكتبتُ إلى عميدي أن يصرف النظر عن طلبي الأول مشيراً إلى أنني كنت أنوي تمثيل الجامعة والكلية، ولكني إزاء الفعل البيروقراطي غير الأكاديمي وغير المقنع، بل الذي يقترب من أن يكون مهيناً، أصرف النظر عن ذلك وسأشارك باسمي فقط، وهو ما فعلتُه فعلاً، فشهدتُ في الجامعة المضيّفة كل ما افتقدته في جامعتي من اعتزاز وتسهيل وتكريم. والمثال الأخير ينقلنا إلى أحد أكثر المجالات التي يُفترض أن تمارِس الأكاديمية فيها سياقاتها الصحيحة لنحصل على بعض النتائج التي نبغيها، لكنّ الكثير من مسؤولينا يفرضون فيها تعليمات عقيمة تعرقل الفعل الأكاديمي الإيجابي بدلاً من دعمه، ليقود ذلك إلى بؤس النتيجة المتوقعة. نعني يهذا المجال: المؤتمرات العلمية، وهو ما سيكون موضوع مقالنا القادم.
وفي العودة إلى تساؤل المقال عن (المعايير) التي يعتمدها المسؤول الأعلى في اختيار مسؤولي المؤسسات والكليات والأقسام التابعة له، وإزاء السلوكيات التي يتصف بها المسؤولون اليوم في إدارة مؤسساتهم ودوائرهم وأقسامهم، وهيمنة العلاقة ما بين المسؤول والمسؤول الأعلى التي من الواضح أن ما يحكمها هو التبعية والطاعة، مع عدم إظهارهم لكفاءات حقيقية ، ليس أمامنا إلا أن نفترض أن تكون هذه المعايير هي: الانتماء، والعلاقات، والطاعة ورضا المسؤول الأعلى. أما الأكاديمية والتاريخ الشخصي والإنجاز، فيبدو أنْ لا مكان لها في ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram