TOP

جريدة المدى > عام > خمسون عاماً على رحيله: حياة صاحب "أنشودة المطر" بوصفها غربة متصلة

خمسون عاماً على رحيله: حياة صاحب "أنشودة المطر" بوصفها غربة متصلة

نشر في: 22 ديسمبر, 2014: 09:01 م

الغربة الأولىفي الفترة ما بين 1960- 1964 صارت ملامح السياب حاضرة بقوة في الثقافة العربية الموّارة بالأحداث والانتقالات والأعمال الفارقة، وتكفي مراجعة واحدة من رسائل صاحب "شناشيل ابنة الجلبي" الى الشاعر أدونيس لمعرفة صلاته بمشهد ثقافي عميق ، فهو زار ب

الغربة الأولى
في الفترة ما بين 1960- 1964 صارت ملامح السياب حاضرة بقوة في الثقافة العربية الموّارة بالأحداث والانتقالات والأعمال الفارقة، وتكفي مراجعة واحدة من رسائل صاحب "شناشيل ابنة الجلبي" الى الشاعر أدونيس لمعرفة صلاته بمشهد ثقافي عميق ، فهو زار بيروت العام 1960 لطبع ديوان له، لينضم الى عمق الحركة الشعرية والثقافية المتمثلة بصدور مجلات صارت علامات في الثقافة اللبنانية والعربية: "شعر"، "حوار" و"الآداب".
وفي رسالته الثانية الى صاحب "مفرد بصيغة الجمع" نقرأ:

 

عزيزي أدونيس
الرسالة المرفقة، كتبت منذ مدة طويلة، ولم تتسن لي فرصة إبرائها. أمس كنت عند جبرا (إبراهيم جبرا). حدثني عنكم كثيراً، وكانت شاعريتك الضخمة الحيّة وقصيدتك الأخيرة مدار الكثير من الحديث، أرسلت إليك، بالبريد، جريدة "الحرية" وفيها قصيدة جديدة لي عنوانها "نبوءة في عام 1956". بودّي لو أمكن نشرها في لبنان، إن كانت تستحق النشر، في مجلة "شعر" أو "الآداب" أو سواهما. فهل لك أن تحقق ذلك؟ هناك غلطة مطبعية في القصيدة أرجو تصحيحها: ففي البيت التاسع عشر منها جاء: "هل يحيا في البلاد" والصواب: "في بغداد"، أرجو تصحيحها.
لم يصلني العدد الجديد من "شعر" ، عسى أن يكون ذلك قريباً. كما أرجو أن تخسر ليرتين، أو نحو ذلك، من أجلي فتشتري لي نسخة من كتاب أسعد رزوق: "الأسطورة في الشعر العربي المعاصر".
"بلّغ سلامي للأخ يوسف الخال، وللأخ نذير العظمة وللأستاذ ماجد فخري وللسيدة سلمى الجيوسي وللسيدة زوجتك وللسيدة أدفيك شيبوب وللآنسة نازك الملائكة، وللأخ رفيق معلوف، ولبقية الأصدقاء".
لكن تلك الحقبة "الذهبية" في سيرة السياب سرعان ما تحولت الى سلسلة من العلل تمكنت من الجسد الواهن للشاعر، فتدهورت صحته، وصار يتنقل بين بيروت وباريس ولندن للعلاج وكان جمسه يهزل أكثر وأكثر، حتى انكسر عظم ساقه لهشاشته. وشكلت السنوات الأخيرة مأساة السياب الصحية والاجتماعية، اذ عانى الوهن إلاّ ان فكرته ونسغه الشعري ظلا فاعلين، الى ان مات في يوم 24/12/1964 بالمستشفى الأميري في الكويت.
وكانت ترتيبات خاصة اتخذها صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي لتأمين علاج السياب، فقد كان نشر نداء موجها لوزير الصحة الكويتي – آنذاك – عبداللطيف محمد الثنيان يناشده فيه معالجة الشاعر العراقي في الكويت وعلى حساب حكومتها وهو ما رحب به الثنيان المعجب اصلا بالشاعر المجدد. غير ان صحته كانت تراجعت كثيرا، وكان التصلّب يسوء في نخاعه الشوكي ويزيد في إفساد وظائف جهازه العصبي وضعفت مناعته فأصيب بالتدرن ومات مسلولا.
ويقول الشاعر الكويتي علي السبتي: "كنت معجبًا إلى حدّ كبير بشعر السيّاب، وعندما التقيته لأوّل مرّة في البصرة ازداد إعجابي به، وأصبح بعد ذلك من أعزّ أصدقائي، ثم باعدتنا الأيام، إلى أن جاء يوم وقع أمام عيني مقال منشور في مجلة "الحوادث" اللبنانية بقلم الأستاذ إلياس سحاب، يتحدّث فيه عن بدر الشاعر المريض الذي لا يحصل على العلاج الكافي، وأنه مهمل في المستشفيات وطريق الموت يتّسع أمامه. لقد هزّ مشاعري هذا المقال، وتألّمت كثيرًا على بدر، فكتبت بدوري مقالا في مجلة "صوت الخليج" الكويتية، طلبت فيه من وزير الصحة الكويتي أن يتبنّى علاج بدر في المستشفيات الكويتية، وفعلا اهتم السيد الوزير بما جاء في مقالي، حيث اتصل بي طالبا عنوان بدر للاتصال به.
وبعد أن وجدوه يتهالك في مستشفى البصرة الجمهوري نقلوه إلى الكويت في السادس من تموز (يوليو) 1964 وكنت في استقباله الى جانب ناجي علوش، والشاعر فاروق شوشة، ونقل إلى المستشفى حيث تشكّلت لجنة طبية خاصة للإشراف على علاجه وفقا لتقارير طبية من مستشفى البصرة الجمهوري، ومستشفى (درم) البريطانية، و تقارير أخرى من فرنسا."
الغربة الأولى التي عنت ان يبدو السياب مهملا رغم الحركة التجديدية الكبرى التي مثلها في الشعر العربي المعاصر، كانت عند ظهيرة الخميس، الرابع والعشرين من ديسمبر 1964، حين خرجت من الكويت سيارة متجهة إلى البصرة، هي سيارة الشاعر علي السبتي، تحمل جثمان السيّاب، لتصل الى مقبرة الحسن البصري بمدينة الزبير جنوبي البصرة، ولم يمش في تشييع الجثمان سوى ستة أشخاص، كان من بينهم صديقه الكويتي ، وكان المطر الذي أحبّه بدر وجعله "أنشودة" خالدة هو الآخر ضمن المشيّعين، فقد هطل على جثمانه من الكويت حتى ووري الثرى في الزبير.
الغربة الثانية
مثلما مات الشاعر بدر شاكر السياب غريبا في بلاده اذ سار في تشييع نعشه ستة فقط من الأصدقاء والأهل ليدفن في مقبرة الحسن البصري عشية عيد الميلاد في العام 1964، بدا صاحب قصيدة "أنشودة المطر" التي تعتبر ابلغ بيان فني وجمالي عن الحداثة الشعرية العربية، وكأنه يموت غريبا مرة اخرى في وطنه، بل في مدينته تحديدا: البصرة، فقد ألغى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق –فرع البصرة احتفالا بذكرى وفاة رائد التحديث في الشعر العربي لتزامنه مع إحياء ذكرى عاشوراء، كما أوضحت الهيئة الإدارية للاتحاد، مؤكدة بأنها بصدد تنتظم ملتقى السياب الإبداعي بالتعاون مع جامعة البصرة في وقت لاحق من عام 2009 .
وعلى الرغم من ان سيرة الشاعر السياب (1926-1964) القصيرة كانت سيرة متصلة من الأحزان، وعلى الرغم من ان الحدث هو حدث أدبي يستعيد ذكرى وفاة الشاعر، إلا أن مخاوف أدباء البصرة من ان يفسر الاحتفال بانه خروج على الحزن الرسمي والشعبي الجماعي يوم عاشوراء، دعت الى تأجيل الاحتفال بحسب عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء والكتاب في البصرة الأديب والصحافي فرات صالح
فيما وعد الناطق باسم الاتحاد الشاعر عبد السادة البصري، تعويض الحدث بتنظيم ملتقى إبداعي خاص بذكرى صاحب " غريب على الخليج".
ويبدو تأجيل الاحتفال بذكرى رحيله، وكأنه غربة الشاعر الثانية في وطنه، حد ان عائلته التزمت الصمت واكتفى ابن عمه عبد الحميد السياب، بان يدعو الحكومة العراقية الى تحويل "دار جدي" المنزل الذي ولد فيه السياب في العام 1926 (العام ذاته الذي شهد ولادة الركنين الآخرين من أركان التحديث في الشعر العربي، نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي) والذي يقبع تحت الإهمال والخراب إلى متحف يضم جميع مقتنيات السياب وأعماله الشعرية والدراسات والأعمال الأدبية والفنية التي عنت بدراسة تجربته والتعبير عنها.
عرّافة: يا سيّاب ستموت مبكراً في أرض غريبة
ومن مجايلي السياب أيام نشأته الثقافية وبزوغ نجمه في البصرة ثم العراق كله، القاص والروائي محمود عبد الوهاب الذي يقول " كنا مجموعة من الأدباء نلتقي في مقهى البدر وكان الشاعر بدر شاكر السياب يشاركنا أغلب هذه اللقاءات، إذ نختار طاولة تقع في زاوية من المقهى، الروائي مهدي عيسى الصقر والشاعر الراحل محمود البريكان والشاعر سعدي يوسف وأنا، ولعل من بين الأمور التي لا يعرفها إلا القليل عن الشاعر السياب، انه كان لا يتحدث بموضوعة تخص الشعر والأدب إلا نادراً ، لكنه كان مجاملاً وفكهاً وينطوي حديثه على أمور طريفة".
وعن المصير المأسوي للسياب يلفت عبد الوهاب "اذكر أن من بين الأمور التي حدثت في مقهى البدر وظلت راسخة في ذاكرتي، أن امرأة كانت تتردد على المقهى وتدّعي أنها قادرة على كشف المستور، فطلبنا منها أن تقرأ فألنا فقالت للشاعر السياب :انك ستموت في ارض غريبة ميتة مبكرة، وأخبرت الشاعر محمود البريكان بموت عنيف ومفجع أما بخصوصي، فقالت: انك ستقضي حياتك من دون رفيقة درب.... يا للغرابة لقد تحقق معظم ما تنبأت به تلك العرافة بالفعل".
وكان الروائي الراحل مهدي عيسى الصقر، دوّن بعضا من أحداث تلك المرحلة في روايته التي صدرت قبل رحيله بوقت قصير "المقامة البصرية"، وظهرت في الرواية أسماء محود عبد الوهاب ( محمود الكاتب )، ومحمود البريكان (محمود الشاعر)، أما الشاعر بدر شاكر السياب فقد جاء اسمه صريحاً في الرواية.
غربته الدائمة
اذا كانت حياته انتهت به ميتا في بلاد غريبة، واذا كانت ذكراه "محرّمة" في مدينته لتكون بذلك غربته الثانية، فان غربته الدائمة كانت تضمنتها مقالة له بعنوان "الشاعر الحديث" اذ يقول: "إننا نعيش في عالم قاتم ، كأنه الكابوس المرعب. و إذا كان الشعر انعكاسا عن الحياة، فلا بد له من أن يكون قاتما مرعبا. لأنه يكشف للروح أذرع الأخطبوط الهائل، من الخطايا السبع، الذي يطبق عليها ويوشك أن يخنقها. ولكن مادامت الحياة مستمرة، فان الأمل في الخلاص باق مع الحياة. إنه الأمل في أن تستيقظ الروح، وهذا ما يحاوله الشعر الحديث".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram