TOP

جريدة المدى > عام > مراثي القميص الشعري

مراثي القميص الشعري

نشر في: 22 ديسمبر, 2014: 09:01 م

بعد خمسين عاما على رحيل بدر شاكر السياب، كيف يمكن ان نتحدث عن تجربته وريادته وثورته وأحلامه المجهضة؟ وهل سنكتفي بالاستعادة الأخلاقية والأيقونية فقط؟ أحسب ان هذه الأسئلة ستكون غير قياسية، لأن السياب لم يعد الّا جزءا من التاريخ، وان استعادته لاتمثل الّ

بعد خمسين عاما على رحيل بدر شاكر السياب، كيف يمكن ان نتحدث عن تجربته وريادته وثورته وأحلامه المجهضة؟ وهل سنكتفي بالاستعادة الأخلاقية والأيقونية فقط؟
أحسب ان هذه الأسئلة ستكون غير قياسية، لأن السياب لم يعد الّا جزءا من التاريخ، وان استعادته لاتمثل الّا مراجعة وقراءة مفتوحة لهذا التاريخ، ذلك الذي يشبه سيرة المغامرين الذين تركوا لنا سفنهم ومراسيهم واسطرلاباتهم وذهبوا الى البعيد..
استعادة السياب بعد خمسين عاما، قد تتجاوز فعل الذكرى، الى ضرورة تنشيط فعل القراءة، القراءة بوصفها كشفا، وتعرية للكثير من الإشكالات الثقافية والسياسية والنفسية التي اقترنت بحياة الشاعر، وخياراته، ومواقفه القلقة والتي انعكست على تجربته الحياتية والشعرية، والتي تبدّت كعناوين بارزة وضدية لسياق شعري تكرس وتضخم بذاكرته الصوتية والتوصيفية..
هذه التعرية ستكون مهيمنة نقدية في توجيه القراءة، وفي اقتراح خطابها الذي سيكون باعثا على إثارة الأسئلة، ليس لاستنطاق تجربة السياب بحد ذاتها، تلك التي التي تشيّأت وتأطرت وصارت خاضعة لسلطة التاريخ والقراءة، بل لأغراض درس القراءة والمنهج ولإعادة فحص التاريخ والنص بوصفهما ألواحا قابلة للقراءة الضد، والقراءة التشريح. ولا احسب ان فعل هذه القراءة سيكتفي بمقاربة التقويم، او حتى إعادة الحديث الممل والساذج عن الأسبقيات مع نازك الملائكة، او عن هوية الريادة بجوانبها الفنية التقليدية والتي أشبعت درسا، لان قصيدة السياب لم تعد تشبه قميص يوسف الذي أعاد الباصرة الى يعقوب، انه الآن قميص للفرجة، وذاكرة للزي الشعري الذي شكل واحدة من علامات التجاوز في بنية الكتابة الشعرية العربية، مثلما لم يعد هو الحجر المقدس الذي يمكنه ان يقطع الطريق على العابرين الى الأفق او المتاهة.. ولا أريد إعادة الحديث الذي سمعته مرة من احد الشعراء التوانسة عن ان أبا القاسم الشابي هو عقدة الشعر التونسي، لأنه تحول الى قوة مانعة، لها مرجعيات في المخيال الشعبي الذي يستعيده بوصفه صورة للشاعر الواضح والثوري والبطل الأخلاقي..
الصورة التي تركها السياب على الحائط العائلي، تشبه صورة الفرسان، لكنها في التوصيف النقدي ظلت صورة باعثة على الكثير من التساؤل، فهي مشوشة الملامح، مشوشة المرجعيات، وخاضعة لقراءات متعددة، لكنها رغم ذلك لم تلغ أبويته الشعرية وسحر حضوره المضاد لذاكرة محشوة بالفحولة والحكايات والأصوات والخطب السياسية والشعرية، وربما ان الأدباء العرب احتفوا بصورة السياب الواضحة التي يعرفونها والتي وصلتهم عبر النصوص والقراءات، اكثر مما احتفى العراقيون بصورته المشوشة، تلك وصلت وهي محاطة ببروازت ملتبسة، تلك التي اختلط فيها السياسي والاجتماعي والايديولوجي.
محفزات القراءة
قراءة السياب الثقافي والسياسي قد تثير من الأسئلة اكثر من السياب الشعري، لأن هذه القراءة كشفت عن محنة السياب الشخصية، وعن هشاشة التزامه إزاء مهيمنات الايديولوجيا، وعن رؤيته الضيقة لوظيفة الحزبي والثوري والمناضل وغيرها من مفردات الأنموذج الدوغمائي التي كانت تبشر بها أحزاب الأربعينات والخمسينات..
يمكن لهذه القراءة ان تكون من انشط الوسائل في استعادة السياب، وفي نزع فوبيا المعطف الذي ظل يرتديه لخمسين عاما، لان فعل القراءة سيرتبط حتما بوجهة نظر ما قد تختلف او تتفق كما يقول النقاد الثقافيون، اي اعتماد مستويات متعددة لهذه القراءة، وفي ضوء ما تتيحه من كشوفات للانساق المضمرة التي تجوهرت فيها حياة السياب، والتي تشفّرت عبر تجربته الشعرية والثقافية بشكل عام، لذلك اجد ان الصورة التي تركها السياب هي صورة تخطيطية اكثر مما هي فوتوغرافية يقينية، اي انها صالحة لاستثارة القراء النقاد، والقراء المؤدلجين، والقراء الباحثين عن المتعة..
وهذا ما يجعل ربط السياب بسياق ثقافي معين أمرا بالغ التعقيد، ليس لأنه عاش لحظة تاريخية وثقافية فارقة، بل لأنه لم يقارب هذه اللحظة الّا بمزاج معذّب، عبّر من خلاله عن أزمته الشخصية الذاتية والجمعية، وعن مخاضات وعيه الشعري الشقي، ووعيه السياسي المضطرب، وكلاهما خضعا لضواغط ومهيمنات أسهمت في إظهار الصورة التخطيطية للسياب، ووضعه في السياق المرعب الذي تحول الى فوران شعري صاخب مثل المومس العمياء، والى جحيم حياتي منهك، والى تماه مع أساطير الخلق والانبعاث/ أنشودة المطر، والى رهاب ايديولوجي احتشدت فيه الكثير من الأفكار والاستعارات والأزمات ذات الحساسية المكبوتة والمسكوت عنها/ اعترافاته الى مجلة الحرية..
الشاعر في اقصى اللعبة
قصيدة السياب وضعتنا أمام إمكانية ان يكون الشعر لعبا في اللغة، واصطناعا مدهشا ومرهقا للاستعارات، ونافرا عن الخط الأفقي لذاكرة القصيدة. واحسب ان خيار اللعب كان من اقسى الخيارات، إذ تبدى عبر التغاير والانفتاح التفعيلي، وعلى التوظيف الأسطوري والتوظيف الشعبي في القصيدة، والذي استشرفه عبر التأثر ب(ت.س.اليوت) واديث ستويل، وعبر قراءته لكتاب "الغصن الذهبي" الذي ترجمه جبرا ابراهيم جبرا..
اقصى درجات اللعبة تمثل في انفتاحه على المدينة الثقافية، في بغداد، وفي بيروت، وعبر انفتاحه على الجماعة الشعرية مثل جماعة شعر، ومجلة الآداب، ومجلة حوار، ولعلي اجد في رسائل السياب الى ادونيس بشكل خاص تجسيدا للصدمة المدينية، وتماهيا للتلذذ الذي أباحته المدينة في سحرها المائي والأنثوي واللغوي، ولا احسب ان التأثير الأولي لجماعة ابولو قد صاغ العقل الشعري للسياب، لان تجربة السياب كانت عميقة وذات عمق فلسفي ولغوي، وتجربة ابولو كانت غنائية وحسية اكثر مما هي تجربة تأملية..
ومن تبديات اللعبة في شعرية السياب نجد اشتغاله في توسيع مديات الجملة الشعرية، اذ هي جملة تصويرية، وثقافية، وهذا التشكل البصري التصويري ينعكس على بنية الجملة النحوية، فهو يفقدها بعض صرامتها البلاغية، ويخضعها الى مزاج الشاعر الحاد حينا، والتأملي حينا اخر، والمكسور في أحايين اخرى..
قصيدة المزاج تعكس محنة الشاعر الداخلية، محنة الجسد وتشوهاته العميقة، ومحنة الفكر واضطراباته الملتبسة، فالسياب كان شيوعيا حادا في تطرفه، وقوميا في نزعة اخرى، ومتمردا عنيفا على شيوعيته وعلى أصدقائه..كل هذا وجد في فضاء القصيدة مجالا للعب الحر، وللسخط والاستعادة والحنين والكراهية، والنفور من الضبط الذي كان السياب حريصا عليه، وهو عكس ما كان يقدمه الشعراء الذين زاملوه، فالبياتي بجملته الرخوة الطيعة، ذات النزعة المدينية، وبلند الحيدري بجملته الغارقة بالتأمل، ونازك المفرطة في غنائيتها التي نلمس آثار علي محمود طه المباشرة عليها..
لعب السياب الحر داخل القصيدة هو الأكثر إبهارا في توصيف منحى التغاير الذي استفز الذاكرة الصوتية، وعبّر عن استنفاد أغراضها، وطرائق توصيفها التقليدي، ومناطق اشتغالها، لكن جملة السياب الشعرية ظلت رغم كل هذه الخروقات تتمثل للقوة الأسلوبية الصياغية التي تعكس ثقافة الشاعر البلاغية، مقابل مايعكس وعيه القلق نزوعا لإعادة هيكلة هذه الثقافة في سياق تعبيري اخر، وإزاء معطيات ثقافية وحياتية اخرى...
السياب ودرس الغائب
فكرة الغائب ظلت واحدة من الانساق المضمرة التي تختبئ خلف أقنعة السياب، واشتغالاته الاستعارية، فـ(الغائب الأكبر) هي الأم، بوصفها الرمزي والإشباعي والاستعادي، والغائب الثاني هي الأنثى الحسية التي تشبع فتوته الملتاعة والمعطوبة الذي مثلته "وفيقة" في شبّاكها المطلعلى الغياب، والغائب الثالث هو الجسد المتعالي، إذ تشكل فوبيا الجسد واحدة من اكثر الغيابات إرباكا لاندماج السياب بالعالم، واحسب ان اللغة المتعالية عند السياب كانت نزوعه لاستحضار المبنى التعويضي بشفراته التعبيرية والدلالية، إذ كثيرا ما نجد احتشاد القصيدة بالصور الاستعادية للقوة والخلق والرمزية الأسطورية الحاملة لفكرة الصراع ما بين الأنوثة والذكورة، او بين الآلهة الشمسية والآلهة القمرية، وهذا الصراع يجسد بحث السياب عن الغائب، الغائب الذي يلاحقه عبر اللغة، او يصطنع غيابه رمزا لتنامي البنية الدرامية، لاسيما في قصائده الطويلة..
كما ان غياب البطل الأخلاقي وضع السياب عند عتبة البحث، والتوسل بالأسطورة لاستعادة صورته الطهرانية والانقاذية، فهو تارة المسيح، وتارة اخرى ديموزي، والحسين تارة ثالثة..ولعل هذه الشخصيات الثلاث تجعله اكثر استغراقا بالبحث عن صورة ضدية لما يضطرب في داخله من صراع ما بين الأنموذج المتعالي، والأنموذج المعطوب، او ما بين الأنموذج العاجز وبين الأنموذج الفائق والبطل والمضحي ..
في كتاب (كنت شيوعيا) الذي أصدرته دار الجمل، وهو جمع لشهادات او اعترافات كتبها السياب عن علاقته بالعديد من رموز الحزب الشيوعي العراقي، والتي تكشف عن هوسه واضطرابه، وعن مزاجه العنفي إزاء الآخرين، اذ كانت الاعترافات أشبه بالتصفية السياسية مع رفاقه القدامى، وتعرية لجوانب اجتماعية لاعلاقة لها بالخلاف العقائدي الذي برز بعد خروجه من التنظيم الحزبي..
الاعترافات/ الشهادات هي تعبير مرضي عن نزعة العصاب التي تلبست السياب في اواخر حياته المضطربة، والتي تم توظيفها لأغراض الصراع السياسي الذي احتدم في الحياة العراقية بعد عام 1961 وتسبب في إحداث اخطر انقلابي عسكري في التاريخ العراقي المعاصر عام 1963..وهناك معلومة نشرتها جريدة (طريق الشعب) تؤكد اعتذار السياب في أيامه الأخيرة عن هذه الاعترافات التي عبّرت عن ازمته المرضية، وعن رعبه من الموت..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram