وأنا أستعلمُ منه عن سنة كتابة الشاعر حسين عبد اللطيف قصيدته(السندباد الجريح) مرثية إلى بدر شاكر السياب، التي ننشرها برفقة مادتنا هذه. عبر الهاتف وبصوته العذب، الذي تسكنه حناجر مئات المنشدين البصريين، قرّاءَ كتب النخل والأنهار، راح يقرؤني الشاعر
وأنا أستعلمُ منه عن سنة كتابة الشاعر حسين عبد اللطيف قصيدته(السندباد الجريح) مرثية إلى بدر شاكر السياب، التي ننشرها برفقة مادتنا هذه. عبر الهاتف وبصوته العذب، الذي تسكنه حناجر مئات المنشدين البصريين، قرّاءَ كتب النخل والأنهار، راح يقرؤني الشاعرُ محمد صالح عبد الرضا مرثية الكبير سعدي يوسف، التي كتبها بمناسبة رحيل "العظيم بدر" - كما يحلو لسعدي ان يصفه دائما- وانا مصغٍ مستمتع بما يلقي في أذني من رائعة السعدي الكبيرة، رحت أتقصى آثار الكبار من شعراء البصرة، من رحل منهم، ومن ظل يمدّنا بأنساغ المعاني الكبيرة للشعر، وبما يجعل من الشعر مادة ممكنة للحياة. سنوات، لا بل عمر من التراب والمطر والريح والطعنات راحت تفصلني بين صوت محمد صالح عبد الرضا، الشاعر، وهو يتلو عليَّ ما تيسّر له من قصيدة السعدي، وبين قصيدة حسين عبد اللطيف، الورقة التي أمامي، وهو يرثي السياب. رحت أستوقف الزمن، أستعلم منه عن مقدرته في بعث الجمال والخصب والنماء.
كتب حسين عبد اللطيف( 1945-2014) قصيدته هذه عام 1967 أي ان عمره كان تسعة عشر عاما آنذاك. كان طالبا في معهد المعلمين، ويلاحظ انه كان قريبا من لغة ومفردات بدر( الظلماء، الجثام، الدياجير...)،كذلك كان في اختيار البحر(الهزج) ربما، لرغبته في التضمين من قصيدة بدر( أنشودة المطر). وهنا لا أجدني ميالا للحديث عن اللغة والمفردات والعروض. لكني وجدت ان عبد اللطيف قد اشترك مع السياب حياتياً، عبر حياة شعرية ذات طبيعة خاصة بهما، مفادها أن الزمن لم ينصف الرجلين معاً، وما علِمته عن حياة العوز والشقاء والمرض عند السياب إنما جاءني من قصائده، وما كتب من بعد ذلك عنه. لكنني استقيت ذلك من حياة عبد اللطيف ورفقتي معه، فضلا عن قصائده التي تفصح طويلا عن حياة لم تكن مسالمة، إن لم تكن مهادنة أصلاً. حسين عبد اللطيف الذي لم ينتم لحزب، ولم يكن قريبا من الحكومات على تعاقبها، ظل مخلصا لشعره وحياته التي أرهقته معها طويلاً.
يجد قارئ القصيدة أن حسين عبد اللطيف وفي مقدمته للقصيدة يقول بان السندباد كان يعود من أسفاره محمّلا ، موفوراً بأنفس الهدايا ... لكن بدر عاد من رحلاته وهو لا يحمل سوى المحّار والردى.. وهنا، في الواقع يشترك عبد اللطيف مع السياب لا مع السندباد في قارب العودة ذاك، ففي أيامه الأخيرة عاني من المرض، بعد أن أخفقت كل مناشدات الأدباء والمثقفين للدولة، من اجل العناية به. كذلك لم يتمكن حسين عبد اللطيف من استمالة الدولة في إيجاد بيت له، فقد ظل جوّالا، مسافرا داخل المدينة، متنقلا من سكن إلى آخر، في البصرة التي لم يغادرها، سندباداً من شعر ومعارف وانطولوجيات، كثير الأصدقاء. عنيداً، ترفعه إلى عليينَ نفس فقيرة لكنها كريمة، قادرة على صنع الحلم، لا يبقي في يده مما يملك لمن حوله، أحاط نفسه بالكتب والدفاتر الصغيرة والمسوّدات، وغلفها بحب من معه . كان أخفق صانع سعادات في العالم. وما مرثيته للسياب وهو في عمر مبّكر إلا نبوءته التي أخلص لها، ذلك الحلم الذي جاهد على ان لا يتكرر إلا معه. وشائج كثيرة وعوالم غير متقطعة وصفحات من عوز وآلام ومرض جمعت بين الكبير بدر شاكر السياب والشاعر حسين عبد اللطيف الذي أنحرف طويلا في ما بعد عن لغة بدر، واتخذ من عالمه وذائقته منحى خاصا به، حتى أصبح ظاهرة يشار لها في كل دراسة عنه، هو الذي استغور الأثر الشعبي والفولكلور في الجنوب العراقي والبصري بخاصة، فكان حجة ودالة لدى كل باحث في الشعر والموروث، فضلا عن كونه شاعراً استعصى على التجييل مثلما استعصى على من جاء بعده تقليده وتقفّي خطاه، خطاه التي قادته إلى التراب كانت له وحده .