TOP

جريدة المدى > عام > كيف أحال السياب "حمارَ الشعر" مهراً رشيقاً

كيف أحال السياب "حمارَ الشعر" مهراً رشيقاً

نشر في: 22 ديسمبر, 2014: 09:01 م

* في البدءلسنا هنا في مقام المراجعة لمواضعات الدرس العروضي المتعلقة ببحر(الرجز) وحدّه الإيقاعي ، ولا بالترويج لطبائع الأداء الشعري التي اكتنفتها موسيقاه إلا بقدر ما يؤسس ذلك لقيم تجليه تجربة شعرية مقننة إيقاعياً لدى السياب ، أتيح لها أن تخبر عن وجهة

* في البدء
لسنا هنا في مقام المراجعة لمواضعات الدرس العروضي المتعلقة ببحر(الرجز) وحدّه الإيقاعي ، ولا بالترويج لطبائع الأداء الشعري التي اكتنفتها موسيقاه إلا بقدر ما يؤسس ذلك لقيم تجليه تجربة شعرية مقننة إيقاعياً لدى السياب ، أتيح لها أن تخبر عن وجهة من الأداء الشعري الحديث الذي اختطه النص السيابي ، وهو يذهب إلى تأمل المتن التراثي الشعري العربي ، ليشغله ـ في جانب مما شغل به منه ـ التداول الإيقاعي الذي أرسى السياب بعض جديده عليه ، في تناغم مع أطر ذلك التراث الموسيقية من دون أن يقع أسير ترددها الموسيقي في أي من نصوصه التي أثرت المتن التجديدي للشعرية العربية الحديثة.
وربما أثير التساؤل المشروع : لم استوقفنا تداول السياب لموسيقى بحر (الرجز) من بين البحور الشعرية العربية الستة عشر التي نظم قصائده على الغالب منها ؟ .
وحقيقة الأمر أننا لم ننشغل بهذا الوزن وتفحص تداوله في نص السياب إلا لأمرين ، الأول : متعلق بهذا الوزن الذي لم ينل إلا كثيرا من الزراية به ، سواء من معظم الشعراء العرب القدامى الذين تجافوه في نظمهم ، أو من قبل نقاد شعر تلك العصور الذين نظروا إليه بعين من الشزر والتجافي ، ألقت به وبالناظمين على وفق قوالبه خارج فضاء الأداء الشعري العالي المكانة الذي يبتغونه . أما الأمر الآخر فمتعلق بالسياب ونجاح مسعاه في إخراج هذا الوزن من عزلته ، وضمه إلى مساحة اشتغاله الشعري ، لينجز ـ من خلال إيقاعه ـ عدداً من أبرز نصوصه ، وأكثرها شهرة وتداولاً قرائياً ونقدياً .
(1)
الرجز واحد من البحور الستة عشر التي استنبطها (الخليل بن أحمد الفراهيدي) من خلال استقرائه لأشعار العرب في العصور السابقة له تلك التي تهيأ لهذا العالم الفذ أن يتأمل انجازها الشعري في أطره الموسيقية ، وأن يبوبه على وفق تلك البحور التي اصطلح لكل منها مسماه وحدود اشتغاله والتشكيلات الموسيقية التي يأتي عليها.لقد اختط إيقاع بحر (الرجز) لفاعليته في الشعرية العربية مساحتين من الاشتغال ، فهو فضلاً عن كونه ـ كما مرت الإشارة ـ واحداً من الأوزان الشعرية التي انتظمت عليها تلك الأدائية الشعرية ، أمسى شكلاً من الأداء الشعري القائم بذاته ، المشتمل على مساحة تمثل ،أطلق عليها مصطلح (الرجز) ، وتنادى إليها مؤدون خاصون ، برز أكثرهم في العصر الأموي ـ وهو أمر لافت للتأمل ـ واشتق لهم المسمى منه ، فقيل (الرُجاز) ومفردها (راجز) ، أولئك الذين تهيأ لهم أن يدرجوا في قوائم من الذكر تخصهم وحدهم ، كـ (رؤبة) وابنه (العجاج) و(أبي نخيلة) و(أبي النجم) وسواهم . وبهذا يكون (الرجز) قد أفرد شخصيته اتجاهاً شعرياً منفرداً سمي به ، فصار لدى العرب ـ وإلى جانب شعر الشطرين ـ شعر الرجز.
لقد ذهب كثير من الدارسين ـ ومنهم المستشرق الكبير بروكلمان ـ إلى القول بقدم إيقاع الرجز، وأنه جاء متطوراً من ممارسة السجع في الكلام . وكان بعض الدارسين القدامى قد سعى إلى تبرير المسمى الذي أطلقه الخليل عليه ـ من خلال ما كان عندهم سياقاً متبعاً في تشخيص الطاهرة المعنوية عبر تماثلها في الرؤية مع مادي سابق أو محايث لها ـ فرأى أن التسمية جاءت لأنه مما تتوالى فيه من حركة وسكون يشبه الرجز في رجل الناقة ورعدتها ، وهو أن تتحرك وتسكن ، ثم تتحرك وتسكن، فيقال لها ـ حينئذ ـ رجزاء .
أما ابن الأثير فتأمل السماحة الصوتية التي يبرز فيها هذا الوزن ، فعنده " إنما سماه رجزاً لأن الرجز أخف على لسان المنشد ، واللسان أسرع به من القصيد".
ويبقى اللافت في أمر هذا الوزن الشعري أنه وعلى الرغم من بسطه لحضوره الإيقاعي على تلكما المساحتين ـ المؤشرتين آنفاً ـ اللتين يفترض منهما أن تمنحاه والمشتغلين عليه تميزاً ومكانة حضور مزيدة على سواه من بحور الشعر العربي الأخرى فإنه لم يحظ بعين من الاهتمام كافية بل نظر إليه بكثير من الزراية حتى عدّ (حمار الشعر) ومطيته ، ومبررهم لذلك الوصف كثرة مايرد فيه من الكلام الذي لايندرج في مسار الشاعرية ، أو ـ طبقاً لقول الباقلاني ـ لأنه يعرض في كلام الناس كثيراً ، وكأنهم ـ بإزاحته عن النسقية الشعرية العربية ـ يجتهدون في إبعاد (شبهة) الشاعرية عن النبي محمد(ص) وماورد عنه من أرجاز قالها في أكثر من مناسبة .
ومع تلك النظرة الدونية التي تؤشر توجهات (النخبة) الأدبية ومقاصدها فقد ظل بحر (الرجز) سخياً ، يشرع مساحة تناغمه الإيقاعي لممارسات شعرية عدة ، فكان الفاعلية الإيقاعية المفضلة لأولئك الذين صنعوا المنظومات العلمية والتربوية والسردية (كألفية ابن مالك ، والمنظومات النحوية الصرفية التعليمية الأخرى ، وما اتبعه (إبان بن إياس اللاحقي) من نظمه كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع .
(2)
حتى العام 1953م لم يتداول السياب النظم على بحر الرجز ، مع أنه استخدم أكثر من عشرة بحور شعرية في نظم قصائده منذ أن بدأ يعلن عن حضوره شاعراً. وكان المثير في أمر السياب مع هذا الوزن أن تكون أول قصيدة عليه هي الأشهر في شعره كله ، تلك هي قصيدته : (أنشودة المطر) ، لتتوالى قصائده الأخرى على هذا الوزن في الأعوام اللاحقة تلكم اللواتي يمكن الإشارة إليهن وإلى سنوات نظمهن كما يلي : (من رؤيا فوكاي) 1955م . بعض أسطر (في المغرب العربي) 1956م . (غارسيا لوركا) و(النهر والموت) 1957م . مقطع من (جيكور والمدينة) 1958م . (سربروس في بابل) 1959م .(مدينة السندباد) 1960م . أمام باب الله ، مدينة السراب ،الغيمة الغريبة، دار جدي1961م . ذهبت ،الشاعر الرجيم ، الوصية ، سفر أيوب ـ2 في العام1962م . سفر أيوب ـ9 ، سفر أيوب ـ 10، الليلة الأخيرة ، الشاهدة ، القصيدة والعنقاء ، إرم ذات العماد ، أقل من بشر ، أغنية بنات الجن 1963م. (في غابة الظلام) 1964م .
وبذلك يكون السياب قد نظم على تفعيلة (الرجز) وإيقاعه أربعاً وعشرين قصيدة ، يمكن لها أن تصنع ديوانا كاملاً ومتميزاً عنده .
لقد رصدت بعض الدراسات النقدية ما قام به السياب من رد اعتبار لإيقاع الرجز، ولاسيما من خلال قصيدتيه المتميزتين (أنشودة المطر) و(النهر والموت)، فعند الشاعرة الفلسطينية والناقدة الدكتورة (سلمى الخضراء الجيوسي) أن اكتشاف الطاقة الإيقاعية الكامنة في الرجز كانت من أهم ما حدث للشعر العربي في حركته الجديدة ، والفضل في ذلك كله يعود ـ طبقاً لرأيها ـ لما فعلته (أنشودة المطر) من انفتاح شعري على هذا البحر.
وكان قد أشر أكثر من دارس لتلك القصيدة المثاقفة الموسيقية العالية التي كان عليها وعي السياب وذائقته المتفردة ، ولاسيما حين أدرج حساسيته الإيقاعية في إضافات ترنمية استمدها من التلاعب بتفعيلة الرجز (مستفعلن) عبر استنباط وحدات أدائية أصغر مما تواتر لها ، من مثل :(متف = فعل) و(متفع= فعول) ، وكما في هذا المقطع الاستهلالي من (أنشودة المطر) :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهر
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم
حيث بنيت أضربها على المراوحة والمزاوجة بين تشكيلتين غير معهودتين في الرجز القديم ، وذلك يعني أننا بإزاء (رجز سيابي) محض . وإذا كان هذا الذي فعله السياب عند بعض الدارسين التقليديين ضرباً من الفوضى الموسيقية فلعل تلك هي الجديرة بأن يطلق عليها وصف (الفوضى الخلاقة) التي صنع السياب من خلالها فتنة نصية مثيرة ، أغرت كثيراً من مجايليه ، من العرب (أدونيس وصلاح عبد الصبور ويوسف الخال) وكذلك من جاء بعدهم (أحمد عبد المعطي حجازي) و(أمل دنقل) ، وكذلك الشعراء العراقيين ، ومن أجيال متعددة بأن يهرعوا إلى استثمار هذا الفضاء الإيقاعي الخصيب الذي نبه السياب الآخرين إليه ، وبشر بطاقته الموسيقية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

أوس الخفاجي: إيران سمحت باستهداف نصر الله وسقوط سوريا

عقوبات قانونية "مشددة" لمنع الاعتداء على الأطباء.. غياب الرادع يفاقم المآسي

مدير الكمارك السابق يخرج عن صمته: دخلاء على مهنة الصحافة يحاولون النيل مني

هزة أرضية جنوب أربيل

مسعود بارزاني يوجه رسالة إلى الحكومة السورية الجديدة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram