هنالك سر غريب يكمن وراء قذارة مدننا وسر غريب آخر وراء نظافة مدن العالم، ومع يقيننا بتقصير الإدارات المحلية ودوائر البلديات وأمانة العاصمة لكننا لا نغفل هنا ما للمواطن من دور في ذلك، وحين نستمع لآراء ذوي الاختصاص من مهندسين وموظفين كبار في الدوائر المعنية يتكشف لنا السر ذاك، الذي لا يخرج عن كون الإنسان لدينا غير معني بشان النظافة، بشان الفساد، وبشأن المستقبل والغد الآمن، لكنه كثير الشكوى من سوء إدارة الدولة لشؤونه في الخدمات العامة، متذمرا أبديا من قلة انتفاعه من التغيير.
أثيرت قبل شهر أو أكثر قضية النظافة في البصرة، وتم اكتشاف اكثر من 5000 عامل بلدية فضائي. القضية التي يعلم بها المحافظ ورئاسة المجلس وجميع مواطني المدينة قبل اكتشافها بعشر سنوات، ولعل تقاسم الوزارات بين الأحزاب منحنا اليقين القاطع بأن الوزارة (س) من حصة الحزب هذا، والوزارة (ص) من حصة الحزب ذاك، وهكذا الحال بالنسبة للوزارة أ،ب،ج،د وووو والقائمة تطول. يعني ان الكتل السياسية تعرف حصص بعضها جيدا، وليس في القضية أسرار واخبار، إنما العمل تحت مبدأ (أسكت عني وأسكت عنك) هو القاسم المشترك بين الجميع. وأصبح بإمكان المواطن البسيط والمعقد معاينة العمارات والبيوت الفخمة والشركات الكبيرة والصغيرة والبساتين والمشاريع لكي يعرف أصحابها من أي الجهات السياسية هم .
الواضح في الامر أن قضية المعالجة الحقيقية لم تبدأ بعد، وبحسب تصريح رئيس الوزراء فإن القضية قد تكلفه حياته، بما يتضح لنا حجم الماكنة غير العاجزة عن تحطيم من يقف في وجهها، وما نقله البعض عن قضية مقتل رئيس لجنة رفع التجاوزات في البصرة مكي التميمي يكشف الوجه أكثر، فقد اغتيل الرجل في أشهر تقاطعات المدينة، قدام مبنى بلدية البصرة، الذي لا يبعد عن المبنى الحكومي سوى بضعة امتار، وهو الذي قام برفع تجاوز مشيد على قطعة أرض تابعة للحكومة، وفي مكنة وقوة من صاحبها أعاد بناءها ثانية، وحين هم التميمي برفع التجاوز لم يمهله قدره، فراح ضحية إصراره على رفع التجاوزات عن الأراضي الحكومية ضمن تكليف رسمي من المحافظ. ولكي يعرف المواطن حجم الضرر الذي لحق به نستذكر ما قام به رئيس الوزراء السابق نوري المالكي قبيل الانتخابات قبل الأخيرة، حيث اصدر مرسوما رئاسيا قضى بمنع رفع التجاوزات، والسماح للمتجاوزين على الاملاك العامة بالبقاء فيها لحين معين، وقد حصد جراء ذلك مئات الآلاف من الاصوات، التي ذهبت لانتخابه، لنعلم فيما بعد الصعوبة البالغة التي ستواجهها الاجهزة الرسمية في معالجة قضية مثل هذه. ما يهمنا هنا أن الدولة وعبر قنواتها واحزابها وكبار المسؤولين فيها تتحمل القسط الكبر من الخراب والفساد الذي انفتحت ملفاته مؤخرا، الملفات التي قد تطيح بالدولة العراقية برمتها.
إن استطاع الدكتور حيدر العبادي المضي بمشروعه في كشف البؤر العميقة للفساد، وقد ابتدأ بحزب الدعوة من خلال تكليفه أحد كبار مستشاريه الاقتصاديين، مظهر محمد صالح فسيأتي اليوم الذي يتصارح فيه الجميع وامام الجميع، وسيتبين لنا الحجم المريع في ملفات الفساد، الذي التهم خزينة العراق، وضاعف من حجم الخراب وعاد على الشعب المبتلى لأيام الفقر والجوع التي عانى منها لسنوات طوال. يبقى أمر خطير أيضا، ترى هل يعفى المواطن البسيط من مسؤوليته؟ قد يبدو السؤال ساذجاً، ذلك لقولنا: وهل كان المواطن إلا مسلوبا، فقيرا، مستبعداً عن كل المشورة، وخارجا عن اهتمام ورعاية الدولة، هو الذي ظل يرمي بنفسه في وزارات القتال( الدفاع والداخلية والاجهزة الامنية) لكي يلقم الأفواه التي يعيلها ما يجنيه من دريهمات. قد يجاب عن ذلك بنعم، وقد يجاب بلا، وبين الاجابتين يمكننا ان نقول: نعم، لأننا نتحدث عن أهمية الحراك المدني. قوام شعوب العالم، الذي من خلاله استطاعت الشعوب تغيير مستقبلها، وطرد حكامها الفاسدين، ونبذ أحزابها الخائنة. ويمكننا ان نقول : لا ، لعلمنا بما فعلته الاحزاب هذه في انفس جماهيرها، حين اماتت فيهم روح المبادرة، وقتلت في ضمائرهم طائر الحرية الابيض، ثم استولت على اكفهم وارجلهم وأعينهم وأسماعهم ومن قبل على قلوبهم لتجعل منها حشودا لا هم لها سوى جلد ذاتها، والبكاء على أطلال من رحلوا، لا تعنى من امر الدنيا إلا بما يؤمن لها لقمة العيش وإن ديفت بالدم والرماد .