"إن تصفية المظاهر المقيدة للحريات، والتبعات القانونية والأدبية للمشاركين في الحركات المطالبة بالإصلاح في إطار العملية السياسية الديمقراطية، ستلقى اهتماماً بالمعالجة، وكذلك إعادة الاعتبار لمن تعرّض إلى أذىً جسدي أو معنوي، علينا العمل على تنظيف جبهاتنا، وجعلها آمنة وعصية على الاختراق. ويتحقق هذا عبر مصالحة وطنية مجتمعية - سياسية ترسي أسس المشاركة في بناء الدولة الديمقراطية التي نريد. إن أحداً لن يمانع في تلبية المطالب الدستورية، وإجراء حوارٍ بنّاء يطور ما يراه كل طرف لا يستجيب لطموحه".
هذه الكلمات جزء من الحوار الموسع الذي أجرته هيئة تحرير المدى مع رئيس الوزراء حيدر العبادي، كلمات بها قدر من الوضوح، وتثبت ان بناء البلدان لا يتم الا بقدر هائل من التسامح، ومراجعة أخطاء الماضي. أليست المصالحة الوطنية الحقة أعظم من المؤتمرات الفارغة وشعارات التهديد وعبارات الفقاعات وجمل الانبطاح؟ أليس المتصالحون وحدهم من يتجاوزون الخوف على الكرسي، لمصلحة الخوف على استقرار الوطن؟
تثبت لنا تجارب الشعوب المدى الذي يمكن ان يصل اليه الفعل البشري، حين تتضافر الجهود والنيات الصادقة في بناء وتطور الأوطان.
كم هو مذهل ومثير ونحن نقلب صفحات التاريخ ان نجد رجلا مثل دنغ شياو بينغ، خليفة ماو، يطلب مساعدة زعيم دولة في حجم سنغافورة، في نقل تجربته الى الصين؟ سنفاجأ، ان بنغ كان يذهب بنفسه سرا للقاء لي كوان ليطلب مشورته، ونعرف، ان التحول الصيني،، كان من عمل رجلين. احدهما زعيم اكبر حزب شيوعي، والثاني كان ينتمي في الماضي الى جناح سياسي متطرف.
من يقرأ في تجارب الشعوب سيجد كيف بدأ شبح الحرب الأهلية فرانكو كابوسا يلوح في الأفق بعد وفاة فرانكو، مذكرا الإسبان بتاريخ لا يريدونه أن يعود، وقتها ظهر السياسي أدولف سواريث الذى اختير ليكون رئيسا للوزراء.
لم تكن المهمة سهلة أمام الرجل البالغ من العمر 43 عاما لكنه أدرك منذ اللحظة الاولى أن الوفاق الوطني هو السبيل لطي صفحة الماضي، ولم يكن وفاقا على طريقة اصحاب نظرية المصالحة المستدامة.
كان المناخ في إسبانيا آنذاك مهيأً تماما لاشتعال الأوضاع في أية لحظة، خاصة أن الجميع لم يكن قد نسي الدماء التي اريقت والأبرياء الذين قتلوا، الا ان قوة صاحب الابتسامة الهادئة نجحت في إقناع الشعب، بأن هناك قاربا إسبانيا واحدا لابد ان يركبه الجميع. وأن راكبا واحدا بإمكانه أن يغرق المركب، اقتنع العسكريون بأن عليهم السماح لليسار بالعمل ورفع الحظر عن الحزب الشيوعي. وأبدى الشيوعيون مرونة حيال الاعتراف بالملكية، وهم الذين خاضوا الحرب دفاعاً عن الجمهورية.
لم تكن المهمة سهلة، امام سواريث الذي وجد نفسه وجها لوجه امام دعاة الحروب والدكتاتورية، وفي مشهد مثير يقتحم عدد من الجنرالات البرلمان الإسباني طالبين من جميع النواب ان يخرجوا رافعين أيديهم مستسلمين، وحين رضخ النواب لمطالب العسكر انتفض سواريث ليصرخ بهم: "لن ترفع اسبانيا يدها مستسلمة، فإسبانيا التوافقية ستبقى مرفوعة الرأس باتجاه المستقبل، فلا مكان للماضي المظلم"، وفشل العسكر في العودة بالبلاد الى زمن الحرب الطائفية.. فقد امن الجميع بسحر كلمات سواريث من ان الثأر لا يبني بلدانا، وان رقصة المنتصر لا مكان لها.
تحصد إسبانيا اليوم ثمار حلم المحامي سواريث بدولة مستقرة اقتصاديا وسياسيا، فقد رفع الرجل شعار "لا تلتفتوا الى الوراء"، في المقابل حصدنا نحن مع ثمار احلام الساسة الفاشلين سنوات من الخيبات والأزمات وبلدا مريضا تفتك به أمراض الرشوة والتزوير والانتهازية والمحسوبية والطائفية.
اليوم ونحن نتابع خطوات العبادي وقراراته في اصلاح ما افسده اصحاب شعارات "ما ننطيها" ندرك جيدا ان العدل المتأخر خير من الظلم الدائم، وان المستقبل سيئد الماضي حتماً.
يكتب أدولف سواريث في مذكراته التي أتمنى ان يقرأها العبادي "ان السياسي يكون عادلا، عندما يعرف أن الانتصار، نصر للجميع وليس هزيمة للشركاء".
العبادي ولحظة سواريث
[post-views]
نشر في: 23 ديسمبر, 2014: 09:01 م