وهل اصبحنا سعداء بتعليق كل شيء على شماعة داعش، واسترحنا؟
بلدة عنكاوة المسيحية التي اقطنها منذ سنة ونصف، باحثا عن مكان يخفف "ضغط دمي" المنفلت.. لم تعد سعيدة كما رأيتها اول مرة. فقد تحولت الى مخيم نازحين فقراء وصفتهم محطة العربية قبل ايام بأنهم "ذوو كبرياء، يمتنعون عن الشكوى" لكنني لا ازال اطأطئ رأسي كلما مررت امام المباني غير المكتملة التي تؤوي في هذا الشتاء، العوائل المسيحية الكريمة التي طردها داعش من سهل نينوى.
عنكاوة، واسمها التاريخي كما يقول الراحل سعدي المالح، عمكا آوا او عمكا آباد، لا تحتفل هذه السنة باعياد الميلاد، التي تصادف اليوم. فهي تحاول مواساة النازحين، وعددهم تجاوز المليونين ومعظمهم مسلمون. لكن الامر لا يتعلق بالاعداد، بل بشعور مرير بان البلاد لم تعد بلادهم!
من يتحمل مسؤولية كل هذا، وهل اصبحنا سعداء بتعليق كل شيء على شماعة داعش، واسترحنا؟
لن اردد ما شاع من ان المسيحيين العراقيين هم سكان اصليون، بما يعني ان غيرهم وافدون. فوشائج ثقافية عديدة تربط الكلدان والسريان بالعرب منذ اكد، ووشائج تاريخ مشترك عديدة تربطهم بسوانا من القوميات. ومنذ الاف السنين ونحن نسبح في بحر لغة ذات جذر واحد، وصدمات تاريخية مشتركة، ونحاول ان نجد طريقا لعيش مشترك. وقبل خمسة قرون لم يكن المسيحيون احرارا فقط، بل حتى الهندوس البعيدون عنا ثقافيا، كان لديهم معبد في البصرة، ومدافن، وحين جاء احد الولاة من بيئة منغلقة في تركيا، استغرب وغضب وامر بقطع رأس الكاهن الهندي، فثار عليه تجار المدينة المسلمون في الغالب، واجبروه على احترام الانفتاح الثقافي في الميناء، وكان هذا الازدهار النسبي في العلاقات قائما على المصالح الواحدة، وبقي المسيحي يشعر بانه في بلاده، حتى ان الارمن حين تعرضوا الى الذبح العثماني لاذوا بارض العراق والشام واندمجوا في حواضرها وابدعوا واصبحو عراقيين وسوريين.
في ليلة الميلاد المجيدة هذه، لن يكون حديثنا عن الحزن المسيحي شفقة على المسيحيين، بل هو شفقة على بلداننا المهددة بفقدان تنوعها الثقافي. وهو فقدان لفرصة تمدن حضاري، وفرصة اندماج بالعالم المتقدم القائم على التنوع.
انها شفقة على انفسنا، فحين يكون هناك نظام ثقافي او اجتماعي يضطهد المسيحيين، فان عناصر الظلم هذه ستضطهد المسلمين انفسهم، ان عاجلا ام اجلا، لان العدالة والحق والمواطنة، امر لا يتجزأ.
لقد اصبح بعضنا سعيدا وهو يشاهد داعش تضطهد التنوع الثقافي، لكي يلقي باللوم على "الخليفة" ويستريح. لكنني اطأطئ رأسي كلما مررت في ازقة عمكاوا، لانني اعلم جيدا، اننا كاغلبية مسلمة، صرنا نتشدد منذ اعوام، ونضطهد التنوع الثقافي بصلافة احيانا، ونطالب المسيحي كاقلية، ان يحترم تشدد الاغلبية. لا شك اننا لم نطلب منهم الجزية، ولم نفكر بسبي بناتهم، لكن العديد من اولادنا شكلوا عصابات باسم الدين وراحوا يضيقون باشكال مختلفة ودموية احيانا، على المسيحي والايزيدي، ومعهما العلماني المسلم، ويستهدفون طريقة حياتهم، خلافا للقانون والدستور وحتى الجانب المتسامح والعظيم من حضارتنا الاسلامية.
ان داعش ليست فرصة لنسيان الخطايا، بل هي فرصة اعتراف. واعتراف الاكثرية المسلمة بالذنب ليس شفقة على المسيحيين، ولا الايزيديين، بل شفقة على بلداننا التي كانت عبر التاريخ، موطنا للتنوع المذهبي والديني والقومي، وهي اليوم تتجه نحو الجمود والواحدية، وتطرد ازهارها من بستان العالم القديم.
لقد افرغت نينوى من المسيحيين لاول مرة منذ الفي عام. وصمتت اجراس كنائسها ليلة الكريسمس لاول مرة منذ الفي عام. وهذا ليس مجرد ذنب لداعش، بل تطور مخيف لممارسة متشددة تشيع بين الاغلبية المسلمة. وهي لن تأتي على المسيحية وحدها، بل تتحول الى مذابح تطال الجميع كما شهدنا في قياماتنا السوداء طوال شهور، من سبايكر وحتى هيت، والضلوعية، ومذابح بغداد اليومية.
انني من بين مسلمين كثيرين يتمسكون بالتنوع، اطأطئ رأسي قاطعا ازقة عمكاوا الوادعة، واتمتم مع اهل هذه البلاد: المجد لله في العلى
ليس شفقة على المسيحية
[post-views]
نشر في: 24 ديسمبر, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
د. اثير حداد
مقاله رائعة جدا , ليس فقط بما تحتويه من معلومه صحفيه بل أيضا وأيضا بالبعد الادبي الإنساني المتضمن فيها ,