حاول المخرج ان يقتبس مركبات هذا العرض من اسطورة معروفة بالشر والخير في الموروث الاسطوري الديني الشرقي القديم , اذ يمثل اهريمان الشر ويقابله اهورامزدا الذي يعني الإله الحكيم
 
خاض المخرج هذا الفضاء بمأثوره المقدس وبدئيته المتخيلة او الوهمية محو

حاول المخرج ان يقتبس مركبات هذا العرض من اسطورة معروفة بالشر والخير في الموروث الاسطوري الديني الشرقي القديم , اذ يمثل اهريمان الشر ويقابله اهورامزدا الذي يعني الإله الحكيم

خاض المخرج هذا الفضاء بمأثوره المقدس وبدئيته المتخيلة او الوهمية محولا اياه الى حركات مسرحية مجازية مؤسلبة , لا تحاكي المألوف اليومي لانهماكها بالرمز الذي يحفظ الهوية الدينية , لامم قديمة بائدة وعادات وتقاليد حافظت على اطارها " الثابت " في شعيرة طقسية مقفلة , من هنا يظهر الصراع بين العقلاني والتاريخي والمتخيل , من غير تأشير حدود واضحة بين هذه الاطراف التي تداخلت عناصرها في العرض , وذابت كينونتها , وخفت حدتها , مما أفضى الى التعتيم على " هوية " خاصة , أراد العرض التوفر عليها واتخاذ موقف حضاري منها باعادة صياغة بنيتها النفسية وربطها بأسطورة عصرية جديدة تمثّل مخيال فولكلوري معاش .
يجد المتفرج نفسه أمام مستويات عرض مختلفة , المستوى الخاص بمشهد الكتاب- الارشيف، الذي يظهر على مشرحة يقتطع منها اطباء بضراوة مقززة بعض أوراقها , تسندها مؤثرات موسيقية غرائبية حادة .
هذا المشهد الاول الاستهلالي يقودنا الى خاتمة يتحول فيها هذا الكدس من الاوراق الى كتاب يتدحرج الى الارض بدلاً من طاولة التشريح , وكأنّ الكتاب هذا بات ضرباً من المتعضيات , ودفائن التاريخ المندرسة , مفتقداً لاصله الأرضي الذي عاد اليه بعد منعطفات طويلة من رحلة ازلية.
نجد أمامنا صوراً ظلية رشيقة ما ان تغادرنا أطيافها المرسومة بعناية ودقّة حتى يتعكّر صفو العرض بتراكم مادي ثقيل يفضح غياب الاضاءة عنه ما يتميز به من جمود وثقل , في هذه المساحة تبقى المجموعة منهمكة بغسيل الملابس ونشرها على حبال الغسيل , مظهرة " أشكال نسوية " بتسريحات شعر مؤسلبة ويقف بينها شاخص على ساقين ليظهر عملاقا بين هذه المجموعة , وقبل الحديث عن البنية الاطارية للعرض , تعرّف الجمهور على بنية ما قبل هذه البنية الاطارية , حيث شاهدنا من يقوم بتنظيف احذية المفترجين ومعه آخر يمسك بصنارة صيد السمك , وثالث يفرض هيمنة رسمية , رامزة الى سلطة قهرية .
في وسط المسرح عند قيام العرض تتحرك مجموعة الرقص بانضباظ متماثل | سيمتري | بوضعيات دوران , والتفاف , ووثبات , ودحرجات تتجّه خطوطها الهندسية في الغالب الى وضعية الانحناء والجلوس أكثر منها من وضعيات الوقوف والاستقامة . وسرعان ما يدهم الفضاء مستوى غريب ليشكّل تكويناً جماليا متفرداً بظهور اثنان من المسوخ البشرية بلون الطين , وكأنهما يعيدان لنا رسم بدء الخليقة ببعدها الخرافي وهما يقومان بأداء حركات غرائبية ويطلقون الصرخات والتأوهات بايقاعات تتوازى مع صخب الموسيقى , وموتيفاتها اللحنية المكررة , الضاجة والخافتة , التي تعززها اصوات المجموعة بتونات هابطة ومتصاعدة حسب دوران المشاهد المرسومة بلغة بصرية تم انجازها بمهارة جسدية محسوسة لتنتهي بظهور شخص يرتدي ملابس عصرية مع ( اللابتوب ) وهو بمظهره هذا بقي متطفلاً او على هامش متن الخاتمة .
لم يتقصد المخرج اي مروق او انزياح تجاه ما يعرض من ( ثيمات ) مقدسة , لدى الناس عبر تاريخهم الخاص , بل حاول تأطير هذا الطقس الفني , بحركات جسدية تتشكل حسيا حسب تحولات " الفكرة العليا " , وما تقتضيه لدى معتنقيها من مواقف عبادية , واخلاقية , فهي قد عبرت عن حالة محلّية ببعض سماتها وحركاتها لتتكامل مع تلك التضاريس العامة المتعلقة بالجانب الروحي الذي بات اليوم ممارسة شعائرية , مشروطة بمقترحات تحريمية ثابتة , منعزلة بتعاليها , كما يظن اتباعها , ونراها تارة اخرى مندرجة في يوميات معاشة عفوية تنفتح تشكلاتها على متغيرات اجتماعية , حيث تفرض طرائقها حسب رغائب القائمين على رعايتها لاسباب مختلفة منها الوجاهة الاجتماعية والعقائدية والعادات السلوكية النفسية المضطربة.
انطلق المخرج اذن من صورة بانورامية ذات مسحة تاريخية ليتابع فيها سلسلة من الحلقات الخاصة بوجدان اولئك الأتباع المؤمنين بها ولكن من منظور ( الكريوغراف ) لمجموعة ناشطة من الشباب المسرحي الموهوب الذي تم التحكم اخراجياً بهم بأدق التعبيرات والاشارات والتكوينات الجسدية , رغم ان هذا النسق الحركي يفقد – احيانا – بعض ترابطه المطلوب جماليا , ربما لاسباب خاصة ( منها نقص التمرين , او ضعف الانتاج مما أثّر سلباً على رؤية المخرج الفنية).
لقد جسدت المجموعة نقوشا أثرية بأجسادها لتعيد انتاج ما اختزن في الذاكرة الانسانية من احافير وصراعات مثيولوجية ( اسطورية ) تخصّ متلازمة الخير والشر ليصبح الجسد معطى مادي يحول اطياف الماضي هذه الى سلوك فني فوق الخشبة بتقنيات (القطع) و (الوصل) .
يتعين القطع على المستوى الأرضي المنخفض فوق وسط الخشبة أما الوصل فيتم اظهاره على المستوى العلوي , الخاص بالتطهير الطقسي , للملبس , والجسد , وفضاء الروح , اما المستوى الثالث الخاص بـ ( اهريمان ) وصاحبه فأنه يمثل لنا ارادة متفوقة قادرة على قيادة هذا القطيع البدائي بتفوهات يطلقونها وكأنها نابعة من قعر جهنم.
اغنت ثنائية القطع والوصل هذه الدينامية الايقاعية للعرض وكسرت من حدة الرتابة التي اعاقت احياناً تدفق مغذيات العرض وافرغت طاقة نشاطه الحيوي والفني .
لم يتخذ الصراع من قضية اجتزاء بضع وريقات من الكتاب الأم الكبير الذي يمزق أوراقه هذه طاقم طبي خاص يبدو بمظهر كهنوتي بل أردف ذلك بظهور كائنين من المسوخ في دلالة خاصة يضفيانها على المعنى ويكيفانها ارضيا ودنيوياً . وهنا انفرطت علاقة الخير بالشر او المتعالي بالارضي لان الخاتمة أكدّت قدرة هذان المسخان على التحكم بالمصائر بقوة ( اهريمان ) الذي يتلاعب بالعقول ويقودها الى حضائر بربرية متوحشة ومغرّبة بتوهان هذياني يسخر الناس ونواميس الطبيعة لمراميه الشريرة بما يقوم به من نوازل ومحن بهم وبمستقبلهم .
تقوم المجموعة بتقديم النذور وهي تندب وتنوح وتلتف على اجسادها لتخنقها بحركات دائرية تتقلص او تتمدد تباعاً باتجاه معابد وثنية دينية شاخصة لتحج الى مفازات بعيدة باتجاه واحد يفرض عليها سننه وشرائعه وواجباته لتعمق من سطوة هذا الأب القبلي الذي يحتم على الابناء الوفاء , لتعاليمه الطوطمية وهم صاغرون , بل أشبه بالقرابين او الذبائح البشرية التي يختلط فيها التكوين الحيواني بالنباتي بالحجري وسط براكين كونية وانفجارات عاتية وهذه كلها ترميزات لصراعات ( بشرية , اقتصادية , سياسية ) عبر تاريخ الفكر الانساني الطويل.
اجتهد المخرج في ختام العرض ان يظهر مجموعته المنقادة الى أهريمان وافعاله ووصاياه البغيضة من خلال الثيمة المركزية للعرض , وهو تشريح الكتاب الذي يعيدون تكوينه الضالعون بأسراره ومداخله ليصبح ليس مجرد تاريخ خاص بتطور الكتابة من البردي والطين والورق ولا علاقة له ايضا بانتقاله الى ميديا تكنلوجية ممثلة بالحاسوب .
لكن تبقى " السخرية " واضحة منبثقة من داخل هذا العرض الكوريوغرافي الجسدي , الذي يزدهر فيه الجروتسك الشكلي البشع , والممثل بمسوخ ادمية منحت لنفسها الحق بتمريغ كرامة البشر بالوحل لتنتصر الى مصالحها وطوباوياتها المريضة في عالم مغاير حضاريا ينظر بعين الازدراء للخرافة وتهاويلها العقيمة التي تتشكل على هيئة الشيطان ( اهريمان ) البشعة مصحوبة بلعنة ابدية من قبل الناس جميعاً .
سبق للمخرج ( علي دعيّم ) المقيم بالسويد ان قدم اعمالا تعبيرية ( كريوغرافية ) جسدية تعتمد التصميم والانشاء الحركي كما في مسرحيته هذه التي انعدمت فيها اللغة اللفظية تماما ليبتعد عن مشكلة الحوار الدرامي وضروراته المهمة في المسرح , مبقيا على الهمهمات والصرخات ليقرنها بتشكيله البصري والحركي , وللمخرج عروض في هذا الاطار مثل ( جيرك ) التي قدمها في منتدى المسرح وسبقتها تجربته ( نار من السماء ) التي قدمها في مهرجان بابل الدولي .
يكتب المخرج في دليل العرض : ( متى يستيقط الناس من غفوتهم السكرى , ألأمر القادم يحمل حبل المشنوق , وأمر يقطع حلم النائم , وأوامر اخرى ما سمحت ان ندفن موتانا او نقرأ آيات الله .)
وهكذا تضافرت في عرض ( اهريمان ) جهود التقنيات في الموسيقى , والاضاءة والماكياج , وامتازت في قدرتها على خلق روح احتفال , متجانسة مع الجو النفسي العام , ومع فكرة العرض القائمة كما بيّنا على بدئية الخليقة البشرية , التي تعاود تقهقرها من جديد , هنا او هناك بفعل الغباء الحضاري والارهاب الأصولي.