قبلَ أن يطرقَ المطرُ زجاجَ النافذةِ المغلقة يأتي صوتُه مسبوقاً ومتبوعاً بأصواتِ الرعد. ينهض الرجلُ فيفتح النافذةَ ليمتلئَ هواءُ الغرفة برائحةِ المطر.
الرجلُ في الغرفةِ، الغرفةُ في طابقٍ ثالثٍ من فندقٍ، الفندقُ في حمرا بيروت.
وبيروتُ في كانونَ آخر ا
قبلَ أن يطرقَ المطرُ زجاجَ النافذةِ المغلقة يأتي صوتُه مسبوقاً ومتبوعاً بأصواتِ الرعد. ينهض الرجلُ فيفتح النافذةَ ليمتلئَ هواءُ الغرفة برائحةِ المطر.
الرجلُ في الغرفةِ، الغرفةُ في طابقٍ ثالثٍ من فندقٍ، الفندقُ في حمرا بيروت.
وبيروتُ في كانونَ آخر الشهور ترقب مقدمَ كانونَ أولَ الشهور، وهي تزيِّن شوارعَها بورد أحمر، قليله صناعيٌّ يفضحه بريقه اللاصف وكثيره طبيعيٌّ تستعذب فيه صفاءه، تنتظر أعيادَ الميلاد ورأسَ السنة وتستبقُ الأيامَ إليها بما تتزين به من أشجارٍ ووردٍ وضوء ومن إشراقٍ بادٍ على قسماتِ وجوه الناس.
المطرُ الذي هطل بغزارةٍ أضفى شيئاً من الحياةِ على ندفِ القطن التي نثرت على أشجار الميلاد كنايةً عن الثلج.. وهذا (الشيءُ من الحياة) يجتازُ النافذةَ فيملأ الغرفة بطاقةٍ من الحيوية التي تمتدّ بالأصابع فتطفئ قناةً خبرية على التلفزيون قبل أن تبحثَ الأصابعُ في يوتيوب عن موسيقى تتطلبها الطاقة التي بدأت تتحكم بالغرفة.
لم يتذكر الرجلُ متى وضعَ التلفزيونَ على تلك القناة التي كانت تبث أخبارَها فلا يسمعها. لقد كان ساهياً عن التلفزيون الذي لم يتذكره ولم يتذكر القناةَ ولا أخبارَها إلا حينما تضايق منها ومن التلفيق المفضوح في أصوات مذيعي الأخبار وقد شعر بالحاجة إلى الموسيقى فأغلق التلفزيون والقناة والأخبار.
ملأ الهواءُ ورائحةُ المطر صدرَ الرجل الذي أزاح الستائرَ وفتح النافذة وأطلَّ على المدينة والشارع والمطرِ الذي كان يهمي بغزارة.
كلُّ شيءٍ تعطّل في الشارع، كما لو أن اتفاقاً مضمراً كان بين الحياة والناسِ والمدينة لأنْ يتركَ المكانَ للمطرِ وحدِه. المطرُ جديرٌ بأن يخلق حياةً كاملة، ولكن لا حياةَ من دونِ إنسان.
وهكذا فعلا، ما هي إلا لحظات حتى كانت في الشارع، على الرصيف، فتاةٌ بدت كما لو أنَّها قطرةٌ ما من قطراتِ المطرِ سقطت على الأرض فاستحالت أنثى (القطرة في اللغة أنثى) على الشارع، هكذا فجأة تنبثق فتاةٌ وتطلعُ من عدمٍ أو من قطرةٍ، فتقف في الشارع وحيدةً تحت المطر وتحت مرأى رجلٍ واقفٍ منشرحاً في شرفة غرفته في الفندقِ متأملاً المطر.
رمت الفتاةُ بمظلتِها وحقيبتها على مشبكٍ حديديٍّ يفصلُ الرصيفَ عن الشارع، وحلّت شعرَها وأطلقت ابتساماتِها لزخاتِ المطر.
لم يوقف المطرُ الفتاةَ، إنما هي من اختارت الوقوفَ تحت المطر. حريةُ قرارِها بالوقوف هي لحظةُ انسجامٍ بين الذاتِ والمطرِ، والجمالُ يبدأ من لحظة انبثاقِ الحرية.
لقد فتحت البنتُ روحَها لهذا الدفق الحيِّ الهاطلِ والذي بدأ يبللُ الشعرَ والوجهَ والقمصلة الجلديةَ والبنطلونَ الجينز. تتحرك أقدامها بخفةِ فراشة وبرقّةِ موجةٍ تنساب جيئةً وذهاباً تحت المطر. ربما كانت تغنّي مع نفسها، لم يكن متأكداً من ذلك، لكنه متأكد من أن السعادة التي غمرت الفتاة كانت تغني عبر كلِّ ملامحِ وجهها وكلِّ حريةِ حركة جسدِها في الهواء تحت المطر حيث وجهُها يرتفعُ باتجاه السماء نحو المطر.
لوهلةٍ بدا للرجل في شرفته أنّ وجهَ الفتاةِ المتطلعَ نحو السماء كان شمساً تنبثقُ من الأرض لتشرقَ على السماء، شمساً تريد أن تعوّضَ غيابَ شمسِ السماءِ المتوارية خلف الغيم. كانت ابتساماتُ الفتاة تغمر المطرَ بمطرٍ آخر، مطر ينبعث من عمق الروح وينهض من أعمق دواخلِها التي لم تعد تكتفي بما يلامس الجسدَ والثيابَ من حبات المطر، فها هي تفتح فمَها لترتويَ من ماءٍ هو أكثرُ من ماءٍ، إنه مطر.
ليس المطرُ الماءَ وحدَه. الماءُ بعضٌ من المطر وهو وسيلتُه ليكونَ حياةً هي أكثر من مجردِ ماء.
ربما الطبيعةُ أكثر إحساساً منا، نحن البشر، بهذه الخصيصةِ التي تجعل المطرَ أكثرَ من مجردِ ماء.. فالماءُ بعضُ عناصرِ الطبيعةِ نفسِها، بينما المطرُ دفقُ حياةٍ يلامسُ جسدَ الطبيعةِ فلا تتردد هي في أن تعبّر عن تغيّرٍ في مزاجِها ومشاعرِها حيث يتورّدُ الدمُ فيها. كثيراً ما تبتسمُ الطبيعة قبلَنا للمطر.
تخلع الفتاة قمصلتها الجلدية، تركنها جنب الحقيبة على السياج الحديدي للرصيف. كان على جسدها تي شيرت أصفرُ بماركة لاكوست، يبدأ التي شيرت يبتل فيلتصق بالجسدِ، ويتحرك الجسد.
لاشيءَ على الشارعِ مع الفتاةِ سوى صوتِ المطر (ليس في العربية تسمية لصوت المطر)، لكنّ المطرَ نفسَه كان كافياً لأن يحرّكَ الجسدَ بإيقاعٍ بدا وكأنه يريد أن يوازنَ بهدوئِه الفاتنِ صخبَ المطرِ الهاطل.
في الغرفةِ خلفَ الرجل الواقفِ في شرفته كان يوتيوب يأتي بإيقاع حيويٍّ من موسيقى رقصة زوربا كما قدمها عازف الكمان الهولندي اندريه ريو.
وبين الرقصتين، رقصةِ الفتاةِ في الشارع على إيقاع المطر ورقصةِ زوربا الافتراضية مع موسيقى ريو في الغرفة، كان الرجلُ سارحاً بدخانِ سيكارته ليس بعيداً عن الصورةِ الحسية لاكتمالِ الجسدِ الأنثويِّ بالماءِ والرقصِ وبالسعادةِ بهما كما تقدمها فتاةُ المطر وعن الصورةِ الوجدانية الحيةِ في الذهنِ عن زوربا وعن الرقصِ بوصفِه قصيدةَ الجسد حينما يكون في أسمى حالاته.
مرّت في الشارع مظلة مطرية كانت تختفي تحتها سيدة. لم يستطع الرجل في شرفته أن يلاحظ سوى المظلة والحركة البطيئة لأقدام سيدةٍ توقَّع رجل الشرفة أنها عجوز اجتازت الفتاة من دون أن تنمّ عنها أية التفاتة باتجاه الفتاة التي لم تنتبه هي الأخرى لمرور السيدة بها.
كان متوقعاً بالنسبة لرجلِ الشرفةِ أن لا يستوقفَ الفتاةَ مرورُ المظلةِ جنبها. كان لها من الامتزاجِ بالمطرِ ما يُغنيها عن كلِّ ما يحصل، وفعلاً اختفت المظلةُ وتلاشت الخطواتُ بعد أمتارٍ في أول انعطافةٍ من الشارع باتجاهِ زقاقٍ ضيق وربما منزلِ المظلةِ والسيدة المختفية تحتها.
ابتلّ تي شيرت لاكوست الأصفرُ بالكامل، وابتلَّ الشعرُ تماماً، وبدأت قطراتُ المطرِ تنساب على الخديّن بمجريين لم تخطئهما عينا رجلِ الشرفة، وحين أطلت على الشارع فتاةٌ من بانسيونٍ مقابلٍ لغرفةِ الرجل في الفندق بقيت تراقب فتاةَ المطرِ بشيءٍ من الذهول وقد امتزج بإعجاب خفيٍّ حتى ندهت فتاةً أخرى أطلت معها من شرفة البانسيون، وبقيتا صامتتين تراقبان فتاةً لم ترتوِ بعد من سعادةِ الحياةِ تحت المطر، فاستلقت على ظهرها في الرصيف باسترخاءٍ.
على أذني كلٍّ من الفتاتين كان هيدفون يتصل بجهازي موبايل، وكان واضحاً من الحركة الخفيفة الراقصة لأيديهما وللجهازين ولأقدامهما أنّ كلاً منهما كانت تستمعُ إلى موسيقى أو أغنيةٍ هي غير التي كانت تستمعُ إليها صاحبتها..
لم تكن الفتاتان في شرفتِهما على صلةٍ حية بما تستمعان إليه وبما يفترض أنهما ترقصان على إيقاعِه.. لقد اخفقتا في محاولةِ اصطناعِ ادعائِهما بعدمِ الانشغالِ بفتاةِ المطر. حركتُهما بين جانبِ الشرفة وجانبها الآخر وتحاشي تكرارِ النظرِ إلى الفتاة لم يدم طويلا، فها هما تعودان لتتوقفا مستندتين إلى سياجِ الشرفةِ الحجري وهاهي عيونُهما، مستغربة ومندهشة، وها هو اهتمامُهما يتركز على الفتاة التي استلقت على الرصيفِ مستسلمةً، باسترخاءٍ لا يُخفي لذّتَه، للمطرِ الساقطِ على جسدها.
عيناها مغمضتان وفمها مبتسم مفتوح يرتوي من القطرات قبل أن يطبق على سعادة ضحك تكتمه، فيما كفّاها تتابعان دفقات المطر على جسدها وكما لو أنها تدفع به ليتخلل المسامات التي لم تعد الملابس المبتلة لتحجبها عن المطر الذي غمر كل شيء فيها. كانت ساقاها تلتفان على بعضهما لتعتصرا المطر الذي غمر البنطلون الجينز. كان المطر يزداد انهماراً وكانت الفتاةُ مستلقيةً تفيضُ على الرصيف والشارعِ والمدينةِ انتشاءً وسعادة.
يستعيد الرجل في الشرفة صورة القاعة التي كانت تتدفق فيها موسيقى زوربا، حيث أوركسترا ريو، وحيث تتسرب روح الموسيقى فتسري في أجساد الحاضرين ليرقصَ مع الوقع اليوناني لأقدامهم المكانُ وترقص المقاعد والستائر ويرقص الهواء وقد رقصت الآلات بين أيدي وأفواه العازفين.. في الطبيعة لا شيء يضاهي الموسيقى والرقص وسعادة التعبير عنهما سوى الورد، فتمتد كفّ رجل الشرفة إلى غصنٍ صغيرٍ بوردة حمراء كانت قد تركتها موظفة الخدمة الأثيوبية على وسادته قبل أن يعود إلى الغرفة من مشوار رياضة المشي الصباحي على شاطئ البحر، فيتناول غصن الوردة الصغير.
تستعد فتاتا شرفة البانسيون لما يبدو من ملابسهما التي تغيرت ومن مظلتيهما تنزهاً قريباً.. ترميان فتاة المطر، وقد استبدت بها نشوة النوم تحت لذة المطر (المطر مذكر بالعربية)، بنظرات إعجاب وحبور ثم تغلقان باب الشرفة خلفهما وتختفيان.
كان المطر ما زال ينهمر بغزارة وكانت أشجار الميلاد تتدفق خضرةً، وكان الورد مفعما بالحياة والمسرة حين نهضت الفتاة فاتحةً ذراعيها لعناق أخير مع المكان والمطر، كانت تأخذ أشياءها من السياج الحديد حين حانت منها التفاتة ممزوجة بابتسامة مشرقة نحو رجل الشرفة الذي رمى إليها، مبتسماً ومحيياً، بالزهرة الحمراء.
وكما سيمضي كل شيء تمضي الفتاة وهي تنثر ورق الوردة في الهواء إلى الأعلى باتجاه الرجل قبل أن تتوارى في أول انعطافةٍ من الشارع باتجاهِ زقاقٍ ضيق وربما منزلٍ تقيم فيه.