TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شاعر النزعة الجمالية

شاعر النزعة الجمالية

نشر في: 28 ديسمبر, 2014: 09:01 م

أصدر سعيد عقل (الذي غادرنا عن عمر جاوز المئة) كتابه الشعري الأول "بنت يفتاح" عام 1935، وبعده بسنوات ثلاث أصدر ألياس أبو شبكة ديوانه الأول " أفاعي الفردوس". ولكن الشاعرين اللبنانيين بدآ الكتابة والنشر في زمن متواقت قبل ذلك. والفارق الكبير بين عالميهما الشعري يلقي مزيداً من الضوء على قيمة كل منهما. فالأول ربط الشعر بالجمال، صارت القصيدة بين يديه قطعة فسيفساء آسرة للنظر. ولا غرابة أن أرى في شعره سمة "الرمزيين"، وأقاربه بالفرنسي ﭭيرلين. الفارق أن ﭭيرلين لم يُقصر شعره بتطرف على الغزل، وعلى رصد مشاعر الحب بين الرجل والمرأة، ورصد مفاتن الطبيعة. وفيمنتصف الأربعينات ظهر الدمشقي نزار قباني في "قالت لي السمراء"، ليرث منه هذا الافتتان بربط الشعر بالجمال، وقصره على المرأة وحبها. على أن نزار ذهب أبعد قليلاً في رصد سايكولوجية المرأة.
شاعر "أفاعي الفردوس"، اتخذ وجهةً معارضة تماماً، حين ربط الشعر بالأخلاق. انتفض والمعول في يمينه على قيم بعينها، وجعل القصيدة مفكرة: نفض الشعر عن ردائه الجمالي وجعله فعّالاً. نفض المرأة عن رداء الدمية اللذيذة الحلوة، وأقحمها في محور ميتافيزيقي لا عهد لها به: محور الخير والشر، الذي يتوزع الطبيعةَ، والانسان، والله والمصير. ولا غرابة أن أرى في شعره سمة الرائي الذي يطمع في إرباك الحواس، فأقاربه بالفرنسي رامبو:
إن في الحسن يا دليلةُ أفعى كم سمعنا فحيحها في سرير
والبصير البصير يُخدع بالحسن وينقاد كالضرير الضرير
أو مطلع قصيدته الشهيرة "سدوم":
مغناكِ ملتهبٌ، وكأسكِ مترعة فاسقِ أباكِ الخمرَ واضطجعي معه
ولم يرث شعره أحدٌ من ساحل المتوسط، ذي الطبيعة السيراميكية المترفة. بل وجد صداه العميق في عدد كبير من رواد القصيدة الحديثة في بغداد، وخاصة بلند الحيدري، وحسين مردان.
الشاعر الذي يعقد الشعرَ بأواصر الجمال لا يتمتع بمناعة مضادة للأهواء المتدنية، كالهوس بالانتساب العقائدي، أو ما يشبهه من هوس النرجسية، أو الشهرة والمجد، التي تُضعف البصيرة، أو تعميها. الشاعر الذي يربط الشعرَ بأواصر الأخلاق تام المناعة، من أنْ يكون مُعتقل العقل والروح للفكرة المقدسة، أو الوطن المقدس، أو العنصر المقدس. وبالتالي فهو تام المناعة من توليد الأعداء،ومن عنصر الكراهية. يهتك الدنيا التي لا تتمتع بالهارموني العادل التوازن طمعاً بالأسمى(رامبو). أو يُطل عليها مشفقاً حدباً (المعري)، ولا فرق بين النشاطين. وهذا ما منحته "أفاعي الفردوس" لي، ولقارئها جملةً.
حين نضبت الحاسة الجمالية بفعل الزمن، لأنها لا تملك جذوراً عميقة في تربة النفس، والمقتصرة على المرأة بالضرورة، بحث نزار قباني عن بديل لا شأن له بالجمال، ولكنه وليد الفقر الأخلاقي،والمخلفات السايكولوجية للنزعة الجمالية: مواصلة تغذية الإيمان بالفكرة، تغذية النرجسية، تغذية الحاجة للشهرة..الخ. فوجدها جاهزة بعد نكسة حزيران فصار يكتب بالسكين، بدل قصائد الحب والحنين، على حد تعبيره. سلعة بالغة الرواج في السوق. ولكن الرائع أن الوليد الشائه للنزعة الجمالية لا يستطيع أن يغيّب قصائد المرحلة الأولى، الوفية لحاسة الجمال حقاً.الذي حدث مع الرائد سعيد عقل لا يختلف كثيرا. فهو بعد أن نضبت النزعةُ الشعرية الجمالية، تورّمت لديه مشاعرُ حب لبنان، فرفع هذا الحب إلى مستوى التقديس. صار لبنان رمزاً مقدساً، لا وطناً. وتقديس الفكرة والرمز يعمي البصيرة، وعادة ما يتطلب أعداءً، وكراهية بالتالي. ولقد انحدر سعيد عقل إليها، وصار يتحدث بكراهية سياسية عمياء، شأنه شأن السوقة في معترك السياسة العربية. الشاعر الأخلاقي لا كراهية لديه، لأن شاغله هو التباس الإنسان على الإنسان، بتعبير التوحيدي. هو التباس القيم، الحياة، الكون. ولكن الرائع، كما قلت، أن الوليد الشائه للنزعة الجمالية لا يغيّب قصائدها الوفية:
ــــ من يغنيكِ، إن أنا لمْ ألوّن لكِ السحر؟
ـــــ بلبلٌ مرّ من هنا، يوم قلّدتَني القمرْ.
ـــــ وإذا الغصنُ ما سكنْ، تحت ريحٍ لم تهمُدِ؟
ـــــ قلتُ: "يابلبلي الحسنْ هاك فاصدحْ على يدي."
ـــــ وإذا اشتال ما انثنى، ونأى في مَدى الفِكرْ؟
ـــــ لا تلمه، وبسمنا شاءَ أنْ يُسكرَ البشر
ـــــ بلبلٌ مرَّ من هنا، يوم قلّدتني القمر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram