في القطار الذاهب من شمال هولندا إلى مدينة لاهاي كنت أفكر طوال الطريق بثلاثة فنانين أحبهم كثيراً وأعمالهم قريبة من ذائقتي، كنت أشعر أن اجتماعهم في معرض واحد يعتبر من الأشياء النادرة حقاً، أو يبدو لي على الأقل أن ذلك المعرض يمثل حدثاً فنيّاً في غاية الأهمية. إذن ثلاثة فنانين يجتمعون في المعرض الذي أنا ذاهب إليه، بينهم كليمت الذي أعتبره أبي الروحي وأقدر أعماله بشكل خاص. هكذا اتجهت إلى بوابة المتحف بعد وصولي إلى المدينة وقطعت تذكرة المعرض الذي يضم أعمال غوستاف كليمت وأيغون شيله وبول كلي وأنا أسترجع أشياء كثيرة في ذهني حولهم وحول تقنياتهم ومعالجاتهم وألوانهم، حول التأثيرات التي أحدثوها في الفن. كنت أستعيد مع نفسي تجريدات كلي وتعبيرية شيله ونساء كليمت اللواتي جمعن كل جاذبية وفتنة مدينة فينّا في عصرها الذهبي.
سحبت خطواتي نحو القاعة الأولى للمعرض واذا برجل في منتصف الأربعينات، طويل القامة وأنيق المظهر يتقدم مني بلطف ويمد لي يده المفتوحة ويقول بكل تهذيب "سيدي، هل تسمح أن تعطيني العلكة التي في فمك ؟" استغربت ذلك التصرف في بداية الأمر وسألته عن السبب، فقال لي بهدوء واطمئنان "ستتجول بين لوحات تقدر أثمانها بالملايين لفنانين نادرين، وبما أنك تريد أن تضمن تمتعك بالأعمال الفنية فنحن في المتحف هنا نريد أيضاً أن نضمن سلامة اللوحات من أي شيء يحتمل أن تتعرض له" عندها عرفت وفهمت مقاصده واستجبت لطلبه بكل امتنان ومحبة ووضعت العلكة على ورقة النشاف التي في يده. شكرني مبتسماً ومضى بعد أن تمنى لي وقتاً طيباً صحبة لوحات المعرض.
استعدت هذه الحادثة اليوم وأنا أقرأ في صحيفة التلغراف الهولندية عن نيَّة متحف فنسنت فان غوخ بأن يمنع الزوار من تصوير اللوحات بواسطة جهاز السمارتفون وذلك بعد أن اشتكى الكثيرون من أنهم لا يستطيعون مشاهدة لوحاتهم المفضلة أو الشهيرة بسهولة بسبب ما يقوم به البعض الآخر من الزوار وهم يقفون فترات طويلة لتصوير اللوحات أو التصوير معها. ولكي يحلُّ المتحف هذه المسألة بشكل جيد فقد وضع على موقعه الألكتروني صوراً للًّوحات المعروضة وبتصوير عالي الجودة لمن يريد استخدامها. المتاحف هنا والمؤسسات الثقافية تتسابق لعرض أعمالها بطريقة لائقة ومناسبة وتجد الحلول التي تساعدها في السير نحو النجاح بسهولة ويسر، يفكرون بكل العوائق المحتملة وكيفية تجاوزها، يحترمون عقول الناس ويقدرون اهتمامهم بالفن ويمنحونهم ما يساوي ثمن التذكرة التي أشتروها وبطرق فيها الكثير من التشويق أيضاً. ومثلما يفكر العاملون في المتاحف بالطرق التي تجعلك تقترب من المتحف وتنتمي إليه والى أجوائه، فهم أيضاً يضعون في حساباتهم كل ما هو متاح لضمان سلامة الأعمال الفنية وعدم تعرضها إلى أي مكروه أو عارض، فإضافه إلى الكاميرات المنتشرة في كل مكان، فهناك أجهزة خاصة للتكييف والتحكم بدرجات الحراة ونسبة الغبار والضوء والرطوبة وكل ما يمكن أن يؤثر على بقاء الأعمال الفنية بأفضل صورة وأجمل هيئة.
ومع ذلك فهناك أيضاً عوامل كثيرة أخرى تؤثر على الأعمال الفنية ويبدو أن المتاحف لا يمكنها التحكم بها، مثل ما حدث مع لوحات كثيرة لفنسنت فان غوخ وخاصة تلك التي رسمها في بداية حياته الفنية والتي أصابتها العتمة أو لوحاته التي رسمها في نهاية حياته وكيف بدأت ألوانها بالتغيّر، وهذه عوامل خارجة عن سيطرة خبراء المتاحف لأنها تتعلق بنوع الألوان والمواد التي رسم بها الفنان أعماله حين كان لا يستطيع دائماً مع الأسف الشديد أن يشتري مواد جيدة لرسم لوحاته التي تحمل كل هذه العبقرية. ورغم ذلك فخبراء متحف فان غوخ ومن خلال بحث جديد لهم أكدوا أنهم توصلوا إلى معرفة ماهية الألوان التي استخدمها فنسنت وسيعرضون صوراً للأعمال تظهر ألوانها كما رسمها الفنان في نهاية القرن التاسع عشر.
في القطار الذاهب إلى غوستاف كليمت
[post-views]
نشر في: 2 يناير, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...