هشــام بن الــشاوي اعتدت في أواخر تسعينيات القرن الماضي التردد على إحدى المكتبات، حيث يمكن أن يجد المرء- هناك- ضالته من طبعات مفقودة لبعض الإصدارات، حتى لا نقول كتبا مستعملة، لأن الكتب ليست سقط متاع، وقيمتها تتجلى في محتواها وليس نضارة أوراقها، وكم من "مطبوع" تجده صقيل الورق لكن مكانه الحقيقي "المزبلة"، مثل تلك "الكتب" التي تخصص في بيعها ذلك الكتبي،
إلى جوار كتب الدجل والأبراج والطبخ، بعد أن اكتشف أن بضاعة الأدب كاسدة... لا أذكر بالذات السنة التي قرأت فيها بعض المجاميع القصصية والروايات لكتاب مغاربة، كنت مشدودا إليهم وإلى كتاباتهم، باعتبارهم من أقطاب الواقعية بالمغرب، ممن كتبوا -وبصدق- عن نبض الواقع المغربي، وكنت أتفادى مسرودات بعض "الكتاب" المغاربة.. بسبب انتماءاتهم السياسية، لأنهم- حسب تصوري المتواضع- لن يستطيعوا التعبير بصدق عمّن يعيشون على حافة الحياة، وهم لا يبرحون مكاتبهم المكيفة.... ترى هل الجميع تأسرهم كتابات اليساريين مثلي؟! هكذا وجدتني أبحث عن كتابات إدريس الخوري ومحمد زفزاف ومحمد شكري، ومن بين الكتب اللاتنسى اطلعت عليها مجموعة "حزن في الرأس وفي القلب " لبادريس، والتي وجدتني ومؤخرا، أسارع إلى ابتياع نسخة منها، وأنا أتامل واجهة المكتبة، وقد لفتت انتباهي بحلتها الأنيقة، كما هي جل إصدارات دار توبقال. المدهش في هذه النصوص أن القارئ المعاصر سيفاجأ بأنها تؤرخ لأحزان بالأبيض والأسود، لأحزان "ستينية"، وشباب "بادريس" وزفزاف وشكري هو نفس شبابنا... لا شيء تغير، نفس المعاناة، نفس الثيمات تقريبا نجدها في كتابات مجايلينا... نفس الهموم، وكأننا نعيش فصول تمثيلية عبثية لا جدوائية، لامنتهية، فلا أحد يجيء ولا شيء يحدث... في قصة "الذباب في الشاطئ" يصير الآخرون ذبابا (وليس جحيما) في عيني بطلة القصة، وفي قصة "المدينة الرمادية" يموت الحب مثل كل الأشياء الجميلة، ويعيش البطل وحيدا، وكل شيء من حوله يتغير... إلا هو الضائع في زحام المدينة الرمادية، ويصاب بخيبة أمل حين يرى شبيهة حبيبته سعاد، ويبدو مضحكا، وهو يطلب منها أن تتخذه صديقا، ويتخلى عن مواصلة مطارتها معزيّا نفسه، وقد أنهكه التعب بأنه بلا حظٍ. وفي "العطش" يكتب إدريس الخوري عن معاناة ربيعة مع العنوسة، وأنوثتها الذابلة، وأيامها المتشابهة الفاترة، ويعذبها الأرق، وهي تسمع ضحكات أبيها -الذي رفض تزويجها حتى تهتم بأبنائه- مع زوجته الشابة في الغرفة المجاورة. وفي قصة "الغرفة" و التي تميل إلى النصوص الفلسفية، نصادف ضيق المكان /الغرفة ورحابة التأمل/الفكرة، ففي كل يوم تستيقظ بطل النص، ويكرر نفس التفاصيل الرتيبة بعد استيقاظه، ولا يأتي النهار الجديد بأي بارقة أمل تكسر رتابة الحياة وخواءها. أما القصة التي تحمل المجموعة اسمها، فهي مرتفعة النبرة نوعا ما مقارنة ببقية النصوص، وهي تعبر عن طموح جيل عايش الأحلام الكبرى والانكسارات الكبرى أيضا. في هذه القصة يكتب إدريس الخوري عن شباب يملكون "كمية كبيرة من اليأس ومن التفاؤل، ومن التفاهة، ومن الإدانة لجميع البشر بما فيهم الآباء والماضي معا". القصة تشي بالقلق الوجودي لدى السارد، والبحث المحموم عن الكينونة في مدينة تغتال أبسط الأحلام، و هي"أن يكتب فقط وينام فقط ويستريح فقط"، مما جعل عبارة "أنا إنسان ولست آلة" تتسرب إلى الجريدة. إنه الحنين إلى "الكتابة أكثر من أي شيء آخر". في قصة "في نقطة ما من العالم يحدث شيء ما" يثير الطفل استهجان رواد المقهى الباذخ، وينظرون إليه بنوع من الدونية، ويلح في طلب "ريال" من الراوي، وأمام رفضه يعرض عليه الطفل أن يصحبه إلى البيت، والذي يبدو أنه اعتاد أن يصطاد لأمه طلاب المتعة، ممارسا هذا الفعل المشين دون أن يدري أي شيء، وكل ما يعرفه أن أمه تفعل ذلك حتى لا تموت من الجوع. في قصص "حزن في الرأس وفي القلب" انتصر إدريس الخوري لأبطاله المسحوقين والمهمشين، أولئك الذين لا صوت لهم، مصورا معاناتهم وانكساراتهم واغتيال أبسط أحلامهم المشروعة.. أحلام قد لا تتجاوز دفء القلب، ودفء البيت (أليس الوطن مجموعة بيوت؟)، وبعضهم مثقفين محبطين مهزومين، عاجزين عن الفعل، ولا يجدون غير الكأس والمرأة بديلا لتلك الطموحات/الحلم بوطن جميل، وحياة كريمة... في جل القصص يخيم على القصص طقس كآبة رمادية... كل شيء رمادي كالحزن، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق... ما أشبه اليوم بالبارحة!.
أحــــزان "خــــــوريـــة" بالأبيــــــض والأســـــــــــود
نشر في: 14 ديسمبر, 2009: 04:41 م