آخر مقال في السنة الماضية خصصته لحديث اللامركزية، وأول مقال أكتبه هذه السنة سيدور حول الموضوع نفسه، ذلك إنني وآخرين نزعم ان هذا المحور سيكون المادة الأساسية للصراع والسجال خلال ربع القرن المقبل، في كل الشرق الأوسط، الذي يعاني من أسلوب عتيق لتقاسم الثروة والسلطة، ولذلك فان أي حديث عن مفاوضات بين شمال وجنوب، سنة وشيعة، كرد وعرب، الخ، سيتطلب المرور بنقاش كبير حول أسلوب الإدارة اللامركزي، بوصفه اكثر أنماط التوزيع والتسوية تقدما وشيوعا في العالم المتقدم.
ولذلك في وسعنا ان نتلمس بوضوح جدلا سياسيا بين الشباب، في ليبيا واليمن، وسوريا والعراق وحتى إيران والخليج، بشأن اللامركزية وتوسيع الصلاحيات للأقاليم والمناطق، والجدل يكبر ويكبر. وهذه الطبقة ستظل تؤثر على المسار السياسي، لا في شهرين أو ثلاثة، بل على مدى ربع قرن ربما. وقد يتمكن معلق ما، بعد سنوات، من كتابة هذه العبارة "إن اللامركزية هي أيديولوجية النصف الأول من القرن، في الشرق الأوسط".
معلقون أفاضل أولوا اهتمامهم لما كتبت، وسأحاول هنا ان أنقل بعض حواراتي معهم. وأبرز سؤال أواجهه هو ان علينا الحصول على إجابة دقيقة ومضمونة: هل ستكون اللامركزية أمرا نافعا؟ وفي العادة أرد على هذا النوع من الأسئلة بما يأتي: لاتوجد إجابات نهائية، ولكل لحظة خصوصيتها، وحين سقط صدام حسين، هل كانت لدينا إجابات عما سيحصل؟ إن التحول إلى الديمقراطية يتطلب تحولا إلى اللامركزية، فلا معنى أن تقبل بتحديث طريقة الوصول إلى السلطة، بينما تتردد في تحديث السلطة وصلاحيات السلطة نفسها. كمن يقوم بتركيب غلاف جديد لحاجة عتيقة. فتبقى هناك دكتاتورية مغلفة باحتكار رهيب وفاشل أيضا،لكنه برّاق ومتلامع.
إن المخاوف الجادة من سيناريو التحول إلى الحكم اللامركزي، هي نفس المخاوف التي كنا نناقشها حين واجهنا احتمال إسقاط صدام والانخراط في تحول ديمقراطي. وبعد كل هذه الورطة لم يعد التراجع ممكنا، ولابد من الاستمرار، وطريقه هو تحديث نظام الإدارة والإنصات باهتمام لما يقوله البصاروة في هذه اللحظة الصعبة، لحظة الإصلاح الكبير الذي سيعني فشله، انتصارا لكل تخريب وموت وفوضى، كما يحب حيدر العبادي أن يردد هذه الأيام.
أما السؤال الذي يستكمل نفس السياق، فهو: من سيضمن أن ينجح البصاروة، ولاحقا المصالوة، في إدارة مدنهم ومقاطعاتهم؟
وجواب كل العقلاء: اترك الناس يستوفون حقهم الدستوري، وساعدهم لينجحوا، لأن فشلهم سيعني فشل المركز أيضا، وإلا فلن يمكنك ان تطلب من الناس البقاء مكتوفي الأيدي ويشعرون بالاضطهاد، بسبب سيطرة خمسين موظفا كبيرا في بغداد، على خطط التنمية المشلولة.
ولذلك فنحن أمام مسار تطور سياسي، أما طلب الصبر على بلاء لاحد له، فمقولة جامدة وسط فشل متحرك، وطالما المركز عاجز فان الأطراف ستتحرك، لأن الجوع والموت قاتلان.
وتتجه كثير من الاعتراضات إلى قصة النفط ومخاوف ان يدفع البصرة لاستقلال كامل، بينما البصاروة العقلاء مستعدون للتوقيع على تنازل عن كل النفط (ولكن لمن؟)، بثمن ان يجربوا امتلاك صلاحيات العمل. لأن البصرة كانت ثرية جدا قبل النفط، وبالمصادفة فقد استفقرت حين ظهر النفط. ولمن أراد فليراجع إحصاءات الناتج المحلي للمئتي عام الماضية، مقارنة بين الولايات الثلاث العراقية.
وعلى العراقيين ان يتذكروا أننا نتحدث عن صلاحيات إضافية هي اليوم أمر عادي، يمتلكه إقليم هندي أو أرجنتيني، وفي كثير من تجارب بلدان العالم الثالث.
وحين يمتلك البصاروة صلاحيات كبيرة فان أمامهم خيارين، الأول تكرار طريقة عمل بغداد والبحث عن عبعوب جديد للبصرة يزيدها خرابا، أما الثاني فهو التطلع لنماذج آسيا والخليج، وأهمية الاستعانة بالاستشارة الأجنبية، والبصرة هي اقدم ميناء عمل فيه الأجانب منذ عصر الكشوفات البرتغالية والهولندية للمحيط الهندي، كما يعلم المهتمون بالتاريخ.
إن التطور سيظل بطيئا، وشخصيا لا أنتظر معجزات، ولكن الخوف من التغيير، سيجعل التطور مستحيلاً.
تخافون الأقاليم.. فعلام الديمقراطية إذن؟
[post-views]
نشر في: 3 يناير, 2015: 09:01 م