لم "نتأخر" كثيرا عن اغاثة النازحين الذين يتجمدون في خيامهم، من شواطئ المتوسط حتى هضبة الاناضول وجبال كردستان. لم نتأخر ابداً، اما ما تشاهدونه من بطء في مبادرتنا، فهو "سرعتنا الطبيعية" التي يجب ان لا نتفاجأ بها. ان الامم التي تحسن قياس سرعتها ستحسن فهم مشاكلها. ولدينا بضعة مشاكل في وحدات القياس كما يبدو.
لا تهتموا كثيرا بالحزن على ما يتجمد في الخيام من اطفال وعجائز، لانها مجرد حادثة تحاول تذكيرنا باشياء كثيرة تجمدت منذ زمن طويل، وجعلت عضلاتنا تتباطأ في كل شيء.
لا ينبغي ابدا ان نستغرب تجمد السوريين والعراقيين في خيامهم، فهذا ابسط نتيجة لجمود سياساتنا وافكارنا وتيبس مشاعرنا طوال قرون. اما ما حصل في اخر اربعين عاما فكان رحماً طبيعية لهول قيامتنا الراهنة.
تيبست السياسة وتجمدت فجعلت العراق يأكل نفسه، مع ايران والكويت، ثم مع ثلاثين دولة. ثم تيبسنا حين تحررت بغداد من اسوأ حاكم عام ٢٠٠٣، ولا زلنا منذ ١١ عاما نتفرغ لشتم بعضنا، ولا نتورع عن رفع اسعار السلاح وخفض اسعار الدم، وهاهو جيل فتي يفتح عيونه على مسار كراهية وغضب رهيب وينخرط في الموت بكل الاتجاهات، والشباب يشتمونك ويسخرون منك حين تتحدث عن دور السياسة في صنع سلام ما.
هل يوجد في تويتر وفيسبوك الان سوى مرايا لحال المجتمعات في الشرق الاوسط، وشبابها يقضون الساعات الطويلة لا في متابعة اختراع علمي او حل معادلة في الكيمياء او مسألة في الحكمة، بل في لعن الطائفة الاخرى، وتبرير انعدام الاخلاق، والاختلاف حول مشروعية التفخيخ وجمع "الغنائم" وبيع النساء والرجال، وجلد الشباب بالسياط؟
وحين تكون سرعتنا بهذا البطء في استيعاب الخطايا ونتائجها، هل يسوغ لنا ان نستغرب من فضيحة الانجماد في مخيمات النزوح، وفضيحة الموت المتواصل للشباب، الذين تزدحم بهم مقابر اربيل والنجف والموصل والرمادي، وسط انجماد السياسة وتيبس الحكمة؟
ها نحن منذ ١٥٠ عاما، نحاول الافاقة من زمن الغفلة الطويل، دون جدوى. لقد كان الفارق في التطور بيننا وبين الغرب ١٠٠ سنة، حتى منتصف القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين اصبح الفارق في الزمن والتنمية بحسب مراكز الابحاث الغربية، شيئا لا يمكن حسابه برقم طبيعي. ذهب العالم يسرع خطاه نحو التنافس على اسرار الذرة والفضاء، وانهمكنا نحن في تلاعن وتشاتم وحروب داخلية وخارجية، وانفقنا معظم مالنا الزائل على النار والبارود، وكل هذه النيران لم تفلح في حماية بيوتنا وارضنا، كما لم تفلح في كسر الجليد عن عقولنا وقلوبنا، حتى دخلنا لحظة حقيقة منقطعة النظير، وصار الملايين من العرب يتجمدون في خيام قرب الجبال، يطلقون حسرات بحجم صحارى اجدادهم اللاهبة ولا يجدون خيط امل يصلح للتشبث او الرجاء.
ولم يبق احد يصغي حتى لحسرات هؤلاء، فالامة منشغلة عنهم بحرب لا اول لها ولا اخر، جزء من الشباب منهمكون بقتل بعضهم بكل انواع البارود، وجزء اخر ينشغلون بصناعة الكراهية بين الاديان والاقوام على مدار الساعة. وجزء ثالث يشعر بالغربة العميقة داخل بلاده فيرحل الى "بلاد الكفر" ثم تلاحقه رايات الموت والاتهام اينما حل.
ولم نفلح في صناعة صدمة تذيب انجماد عقولنا وقلوبنا، ولا نجحنا في الاستجابة لالف صدمة وقعت على رؤوسنا، فبعد كل الموت والخسارات، لانزال نتردد في ابرام الصلح، ونسمي التسوية انبطاحا، والحوار تنازلا مذلاً. وهل بقي مستوى من الانحدار لننبطح فيه، وهل بقي لدينا شيء نخاف ان نتنازل عنه؟
ولا يأس! بل يظل باب التفاؤل مفتوحا، غير انه تفاؤل من نوع خاص، لا يحلم بانجاز كبير، ولا يأمل الا باستجماع ما بقي من عقل لتخفيف الخسارات وتقليل سواد الكارثة.
ما الذي تجمد في خيامكم؟
[post-views]
نشر في: 10 يناير, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 2
ابو اثير
لا يستقر بينا الحال ألا أذا تخلصنا وفصلنا بين الدين والدولة لأن الدين مع السياسة مثل الماء مع السم لاتحس به ألا بعد أن تشربه ويدخل جوفك ... ولنستفيد من تجربة الشعوب ألأوربية عندما فصلت الدين عن الدولة في آواخر القرن السابع عشر وتخلصوا من الحروب ألأهلية وأ
ابو اثير
لا يستقر بينا الحال ألا أذا تخلصنا وفصلنا بين الدين والدولة لأن الدين مع السياسة مثل الماء مع السم لاتحس به ألا بعد أن تشربه ويدخل جوفك ... ولنستفيد من تجربة الشعوب ألأوربية عندما فصلت الدين عن الدولة في آواخر القرن السابع عشر وتخلصوا من الحروب ألأهلية وأ