TOP

جريدة المدى > عام > حسب الشيخ جعفر وأحلامه الموسكوفية

حسب الشيخ جعفر وأحلامه الموسكوفية

نشر في: 12 يناير, 2015: 09:01 م

عندما أهداني الشاعر المبدع حسب الشيخ جعفر روايته " ربما هي رقصة لا غير .." التي تحدث فيها عن اللقاء "القدري" مع حسناء او حسناوات روسيات، حسبتها مجرد أصداء الماضي من فترة دراسته بموسكو ، وظننت ان حسب سيكتفي بها في تصوير مرحلة من مراحل حياته. لأن هاجسه

عندما أهداني الشاعر المبدع حسب الشيخ جعفر روايته " ربما هي رقصة لا غير .." التي تحدث فيها عن اللقاء "القدري" مع حسناء او حسناوات روسيات، حسبتها مجرد أصداء الماضي من فترة دراسته بموسكو ، وظننت ان حسب سيكتفي بها في تصوير مرحلة من مراحل حياته. لأن هاجسه الرئيسي يبقى الشعر وليس النثر . لكنني فوجئت بصدور رواية أخرى للشاعر هي " نينا بتروفنا .. من ايقظ الحسناء النائمة؟"، تتناول ايضا موضوع اللقاءات "القدرية" مع سرب من الحسناوات الروسيات.

 

ويتراءى للقارئ ان بطل الرواية "دون جوان العراقي" الذي يعمل مترجما في احدى دور النشر بموسكو لا يجد معنى لحياته سوى في الترجمة وزيارة مكتبة اللغات الأجنبية ولقاء الحسناوات وتناول البونش او النبيذ " الخفيف" ثم قضاء الليل معهن في الفراش. "إنهن يرتمين عليه ارتماء الفراشة على النار"، حسب تعبير احد أبطال روايته الاولى. وتبدو الأحداث في الروايتين وكأنها أحلام بعيدة عن واقع الحياة. لكنها في الوقت نفسه قد تكون صرخة مدوية ضد الواقع التعيس للمرأة العراقية ، وأراد الكاتب ان تكون المرأة في بلادنا ايضا مثل نينا بتروفنا الروسية انسانة جميلة وحرة ومثقفة وحكيمة.
ان تناول حسب الشيخ جعفر، الذي عرفته في الستينات حينما كان فتى خجولا جاء الى موسكو للدراسة في معهد غوركي ، أحداث الحياة الرومانسية الموسكوفية وجعلها مرة اخرى موضوعا لروايته الثانية قد يثير بعض الاستغراب لدى البعض .انها تشبه الأحلام المشوبة بالحنين الى فترة الحياة الطلابية الماضية . وقد تميزت تلك الفترة بالانفتاح على الأجانب بعد ان كانت موسكو تعيش في عزلة سببها " الجدار الحديدي". ووجد الطلاب العراقيون الذين تدفقوا على الاتحاد السوفيتي بالآلاف بعد ثورة 14 تموز الحفاوة البالغة في المجتمع الموسكوفي ولاسيما لدى الفتيات. بينما كان الشبان العراقيون المكبوتون جنسيا والمحرومون من معاشرة الجنس اللطيف في وطنهم بسبب التقاليد المتحجرة يجدون الحرية في الخروج مع الفتيات الى السينما والمطاعم والمسارح. ووجد البعض مشاعر الحب المقدسة الحقيقية لأول مرة في حياتهم .
ولكن ربما يتساءل القارئ لماذا عمد الشاعر – الناثر الآن ، وقد شهد كل محن وأرزاء وطنه ومعاناة شعبه في أعوام حكم الطاغوت والباغوت الدكتاتوري والاحتلال الأجنبي لوطنه ومن ثم فترة تمزق هذا الوطن الى أشلاء الى تصوير عالم خيالي بعيد عن وضع وطنه البائس. فهناك نفوس عراقية حرثتها أنواع الشقاء والمحن جديرة بان تغدو موضوعا لرواية. وكنت أتوقع ان يتناول شاعرنا في أعماله النثرية مواضيع تتعلق بالحرب والسجن وإراقة دماء الأبرياء وإذلال الشعب العراقي الذي احتمل الخطوب واصطلى الحروب.. واصبح الانسان فيه ارخص سلعة. لكن المؤلف المبدع حر طبعا في اختيار مواضيع أعماله حتى لو طوحت به غوائل الزمن. انه حر في ان يلقي حبل الخيال على غاربه .وكما قال المعري "لا تقيد علي لفظي فانا مثل غيري تكلمي بالمجاز"، و"خذ رأيي وحسبك ذاك مني- على ما في من عوج وامت ". لذا لا نستطيع إرغام المبدع على اختيار موضوع لا يجد له صدى في أعماق ذاته. بالأخص في أيامنا هذه حين ركدت ريح الأدب وخبت أنوار الفكر.
ان موضوع المرأة هو المحور الأساسي لحياة بطل روايتي حسب الشيخ جعفر المذكورتين . ويطرح هذا الموضوع بلا خلفية ايديولوجية او قواعد خلقية ما. ويروي المؤلف الأحداث بصراحة بغير مداورة او لف ودوران. فهو صادق مع نفسه كل الصدق. لكنه قد يتوه احيانا توهانا كاملا في تسلسل الأحداث ولذا لم يجد مفرا في نهاية المطاف من إيصال قدر البطل الى الموت مع ربيبة محبوبته في حادث طريق، لتبقى البطلة نينا بتروفنا لابسة الحداد عليهما طوال الحياة.
لقد كان بطلنا الشاب على جانب عظيم من الثقافة ، زد على ذلك انه كان فياض العافية والرجولة، ولكنه بقي يعيش متوحدا منعزلا ليس لأنه ألمت به حاجة الى الوحدة والعزلة بل فقط لكونه أجنبيا مشغولا بالترجمة وزيارة مكتبة اللغات الأجنبية طوال النهار، وتزجية الوقت في المقهى يناغي البونش والقهوة في الأمسيات وحتى وقت متأخر من الليل. وكان نؤوم الضحى ولا ينهض مبكرا الا لمرافقة حبيباته الى أماكن عملهن. ولم يكن حوله أقارب وأصدقاء ولم تكن تكدر وحدته سوى جارته لوسيا التي كانت تنعم بجمال لا يجحد وتأتي اليه لتقترض منه النقود بين فينة واخرى وأقام معها علاقة غرامية ايضا في غياب زوجها السكير...حتى التقى امرأة لا تضارع في الجمال هي الطبيبة الجراحة المعروفة نينا بتروفنا الحسناء الذكية الأنيقة الهندام . وتبقى حتى نهاية الرواية شخصية يلفها الغموض ومنطوية على أسرارها ولا تكشف حقيقة العواطف التي تضطرم في قرارة نفسها ودوافع تعلقها بالشاب العراقي. ويصف المؤلف نينا بتروفنا على لسان بطله:" سبحان من خلق وسوى ! هي افروديت حية ، دافئة ، اي وجه ساحر واي قوام باذخ ثري "و انني "لم أر امرأة اجمل منها". وصارت نينا بتروفنا تقضي ليلة واحدة في الاسبوع في شقته ولا تغادرها الا حين يطلع الفجر ويتمزق قميص الليل وينبلج وجه الصباح..لاسيما في ايام الشتاء الذي يتدثر بليل اسود بارد. وكان قد عقد النية على الزواج منها لكنها رفضت عروضه مرارا بسبب فارق السن. فهي اكبر منه سنا. ولكنه عرف معها بالذات مباهج الحب وعذوبة أوجاعه.
لكن رُب قائل يقول ما الذي جعل "دون جوان" هذا يضاجع اذن ناديا ربيبة نينا بتروفنا ويتبادل معها القبل الحارة المخضلة ، وكذلك الجارة لوسيا وصديقتها ارينا ويقيم علاقات مع اخريات ويشتري لهن الملابس والسجاير والويسكي من مخازن العملة الاجنبية. ثم يواصل في الوقت نفسه لقاء نينا بتروفنا دون ان تراوده اية شكوك بصدد تواصل هذه العلاقة. وهكذا لا يوجد اي شيء يصده عن ممارسة الجنس مع أية حسناء اخرى. وحسب الرواية فان جميع النساء في موسكو حسناوات. وجرت له محاولة فاشلة واحدة فقط لإقامة علاقات مع طالبة التقى بها في مكتبة اللغات الأجنبية.
ان أحداث هذه الرواية تبدو وكأنها استمرار لأحداث روايته السابقة "ربما هي رقصة لا غير .." ويبدو ان المؤلف لم يشبع من نشوة الأحلام . فالبطل هناك مترجم ايضا يقيم علاقات مع مختلف النساء ويدعوهن لشرب البونش والقهوة ويحضر حفلات اللهو. وجميع ارتباطاته مع النساء فقط . ولم يكن يقيم علاقة (جادة) مع فتاة اكثر من عدة شهور. وكان يفضل (الحرية) حسب قوله . علما ان البقية من الرجال بقوا خارج اطار اهتماماته ولا يرتبط مع أحد منهم بعلاقات صداقة عادية دائمة . ويورد المؤلف السرد الروائي نقلا عن مذكرات البطل التي تركها لدى جارته في الرواية الاولى ، ومذكرات شخص مجهول لا يعرفه في الرواية الثانية.
ولست هنا بصدد الحديث عن " السردية" في نثر حسب الشيخ جعفر ، وهي التي يفرد لها النقاد البحوث والدراسات. بل أود التركيز على رغبة المؤلف في إظهار معارفه الأدبية لدى الحديث عن كبار أدباء روسيا أو إيراد مقاطع كثيرة من أقوال سقراط او الجاحظ او المتنبي وحكاية كلب زريق وهلمجرا. ويصف حاله عندما يحتضن الربيبة ناديا ويقبل فاها بإيراد مقاطع من قصيدة جاء فيها :
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح او قبلت فاها ؟
وهل رفت عليك قرون ليلى
رفيف الاقحوانة في نداها ؟
أو قول المتنبي :
وللخود مني ليلة ثم بيننا فلاة الى غير اللقاء تجاب
ويظهر وصف احد المشاهد بين البطل ومحبوبته نينا نوعية العلاقة بينهما :"احتضنتها غضة، مائجة بين ذراعي وهي تتلفن ،وكنت أشم شعرها الأشقر الثقيل ، الفائح عبيرا مثيرا. وهي تحس كم انا راغب ومحب . وان لطراوتها ما يشعرني بالدوار ، وهي تعرف . وتذكرت الليلة الاولى (لماذا لم تخبريني.. خجلت ان أقول لك انني عذراء). وذكرتها فضحكت قائلة لي :- قبل ان تدعوني كنت أعرف انني (امرأتك)."
وتضاف ذلك الى ذكريات طفولته في القرية بجنوب العراق واحاديث جدته الممتعة. وصيد الطيور المهاجرة في الأهوار. وفي بعض الأماكن يورد بعض الأبيات من نظمه وطبعا لكل مقال مقام. وهذا الأمر يجعل القارئ لا يشعر بالسأم من تكرار الأحداث . الأمر الآخر ان حسب الشيخ جعفر يظهر براعة في استخدام عنصر الحوار في الرواية. والرواية زاخرة بالعبارات المجازية منها فعلا، وهذا يخلق نوعا من التشويق في متابعة القراءة. ولربما انه لو دخل ميدان التأليف المسرحي لأثرى المكتبة العربية بأعمال مسرحية رائعة.
ويخصص المؤلف حيزا كبيرا في عمله الى وصف ثلوج موسكو وجوها البارد ،والطوابير عند المتاجر والمطاعم، وكذلك وصف فندق موسكو و" السلم المرمي الأشهب" الذي يرد ذكره عشرات المرات في الروايتين. ومعروف ان مقهى فندق موسكو كان في الستينات ملتقى العراقيين. وتجري أحداث كثيرة في الرواية في وسط المدينة حيث فندق موسكو وفندق متروبول ومسرح البولشوي وشارع غوركي( حاليا تفيرسكايا).
ان مسيرة حسب الشيخ جعفر الروائية تجسد موهبته الفطرية ورسوخ أصوله العراقية. ولربما ان أحداث موسكو في روايتيه انما تشكل تعبيرا مجازيا عن واقع وطنه وما يتمنى ان يراه في موطنه العمارة وليس في موسكو . ولربما ان نينا بتروفنا هي "السيدة السومرية" والمثل الأعلى للمرأة كما يراه الشاعر .واختياره للرواية هو فرصة إبداعية اخرى . وقال المؤلف عن الرواية انها "السباحة والصيد ، ومن الممكن القول انها سباحة ضد المجرى".
لقد شهدت الرواية العراقية تطورا نوعيا وكميا ملحوظا في العقود الاخيرة ، وظهر روائيون بارزون تجاوزوا كتاب الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ولا ريب في ان روايتَي حسب الشيخ جعفر تحتلان مكانة بارزة في تاريخ الرواية العراقية المعاصرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. وليد الجبوري

    حسب شاعر مبدع ولكنه ليس ناثرا . نينا بتروفنا ليست رواية على الإطلاق ولا يربطها شيء بالفن الروائي . كنت في السنوات التي يتحدث عنها حسب في موسكو ، وكان شابا خجولا جدا ومنطويا ، وليس دون جوان عراقيا . الكتاب حافل بالمبالغات الغير معقولة . فهل الفتيات الروسي

يحدث الآن

مشاركة 25 ألف مركبة خاصة و350 باصاً في نقل الزائرين

660 ألف طفل في قطاع غزة لا يزالون خارج المدارس

وزير الخارجية: القوات الأمريكية ستبقى في العراق بظل إدارة ترامب الجديدة

إيران: استقالة المسؤولين الإسرائيليين دليل على هزيمتهم

اسعار النفط العراقي تهوي لما دون 80 دولارا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram