حين خرج سائق سيارة الأجرة العتيقة صباحا الى عمله تاركا أسرته الصغيرة في المنزل المتهالك الصغير الذي استأجروه في احدى المناطق الشعبية القديمة بعد نزوحهم من منطقتهم الجميلة في اطراف بغداد ، ظلت توصيات زوجته تطن في أذنيه كالذباب ، نحتاج الى خمسة لترات من النفط ..اجلب لنا فقط طماطة وبصل وبهارات ، ولا تنس ان ابنتك بحاجة الى حذاء شتوي للمدرسة فمازالت تذهب الى مدرستها الجديدة بحذاء صيفي ..
بعد نزول اول راكب ، اصاب عطل سيارته المتعبة واضطر الى استدانة مبلغ من المال من صديقه الكهربائي ليعطيها ل( الفيتر ) ..لم يكن المطر قد انقطع بعد وكان باله منشغلا طوال الوقت بالتفكير بأسرته التي تركها منذ الصباح دون نفط او طعام ..كان الليل قد هبط حين عاد الى منزله واشتد المطر والبرد ..لاشك ان زوجته الآن بانتظار الغنائم ..اقنع نفسه بأن زوجته مدبرة وسوف تستغل ( عدس ) المساعدات الغذائية الإنسانية للنازحين في صنع ( شوربة ) فاخرة وستطلب البصل والبهارات من الجيران ، وربما تمكنت من الحصول على النفط ايضا من الجيران ..حين وصل الى المنزل لم يجد اسرته الصغيرة ولم يجد المنزل نفسه ..كان قد تهاوى بفعل المطر ..جن جنون الرجل وتصور انه فقد سبب بقائه واحتماله هذه الحياة الشائكة لكن جاره استقبله ليبشره بسلامة اسرته ولجوئها اليهم بعدا ن تسرب اليهم المطر من شقوق السقف والجدران ..حمد الله على سلامتهم وادرك انه نزح مجددا الى منزل الجيران هذه المرة وان عليه ان يجد حلا لإنقاذ عائلته ..
قصة من مئات القصص التي أصبحت عليها حياة النازحين في العراق ..تلك الحياة التي تحطمت على صخور ضمائر السياسيين الجليدية وتشظت في اجواء بلاد عاجزة عن حفظ حياة ابنائها وماء وجوههم ...حياة باتت بائسة وزادها المطر وموجة البرد بؤسا ويأسا من العودة الى الديار او ايجاد حلول جذرية بديلة ..
لو تجولنا في اطراف بغداد وضواحيها والمحافظات لوجدنا اراض شاسعة لم يتم استغلالها لا للزراعة كمورد بديل او مساعد للنفط ولا لإقامة مصانع او معامل تمتص زخم البطالة وتجنبنا الاستيراد المحموم لكل شيء حتى ما نملكه في العراق من خيرات وفيرة ولا لإقامة مجمعات سكنية تحفظ لكل عراقي كرامته عبر امتلاكه سقفا ..مجرد سقف هو كل مايحتاجه العراقي الآن بعد ان اصبح ورقة في مهب ريح السياسة فخسر ممتلكاته وسقفه ليتشرد داخل بلده ..
في حواراتهم مع الصحافة ، قال المسؤولون عن وجه بغداد الحضاري انهم انفقوا الملايين على شراء ورود جملت وجه بغداد خلال إقامة مؤتمر قمة فقير فيها وانهم فخورون باقامة اكبر مول على اراضيها لتجميل وجهها الحضاري بينما يتكدس ابناؤها كالسردين في علب صغيرة يتفنن اصحابها في رص ( التنك ) مع مخلفات البناء لمنحها هيئة منازل !!
بعض المسؤولين يحاول ان (يحلل خبزته ) ويرضي الاصوات التي اختارته شراءا او انتخابا بأن يطلق التصريحات المؤثرة هنا وهناك لدعم النازحين ، وهكذا تتشكل لجان وتعقد اجتماعات وتنطلق اصوات النواب الهادرة ثم تخفت في الاستراحة لتناول الولائم الدسمة بينما ينتظر النازحون حلولا ..تحت رحمة البرد والمطر ...
تحت البرد والمطر
[post-views]
نشر في: 12 يناير, 2015: 09:01 م