برج الحوت وزهور ماركيز الصفراء
لطالما كنت أيها الساحر تتطير من النذر والعلامات وإشارات الطبيعة الغامضة ،وتتفاءل بوردة صفراء تضعها لك مرسيدس على منضدة الكتابة كل صباح لتضبط إيقاعك لأنك لا تستطيع العمل وترتبك وتدور حائرا في الغرفة عاجزا عن التركيز وتحريك القلم أو النقر على الآلة الكاتبة مالم تجد الزهرة ، فكانت مرسيدس الحانية تعتذر عن إرباكك وتهرع مذعورة لتضع أمامك رمز الأمان : زهرتك الصفراء التي صرت تزين بها عروة سترتك وتبتهج حين ترى أناسا يحملون زهورا صفراء و تردد:
- لا أشعر بالأمان إلا إذا كنت محاطا بالنساء والزهور الصفراء ،اللون الأصفر يشعرني بالسعادة..
وهاهم يشيعونك الى خلودك مطوقا بأكاليل زهور صفراء وخلف نعشك يقف ،مع سيدة حياتك مرسيدس، رئيسا كولومبيا والمكسيك ، بلدا ولادتك و إقامتك ، في روايتك (مائة عام من العزلة) جعلت السماء تمطر زهورا صفراء كشموس ، وكنت تتشاءم من بعض الثياب والصور والكلمات ، وقد لاتخرج من البيت اذا مرت بك علامة من تلك العلامات وحركت هواجسك الخفية ، وعندما جاءك جيرالد مارتن الكاتب البريطاني المتخصص بآداب أميركا اللاتينية وفاوضك على كتابة سيرتك الذاتية قلت له بصوت بارد ودونما حماس:
- لماذا تريد أن تكتب السيرة؟ كتابة السيرة تعني الموت..
أكنت تخشى الموت وأنت القادر على الحب واختلاق الحكايا المذهلة ؟؟ كلنا نخشاه أيها الساحر ولكننا نتصالح مع فكرته ونتقبلها كحقيقة وحيدة في الحياة تختم كل الحكايا ، حكايات الولادة و الحلم والعشق والكفاح والشغف وبلوغ مراقي الأمنيات.
بغتة تعترف لنا مزهوا بأن مرسيدس وبرج الحوت كانا تعويذة النجاة كل حين - أحببتها وأنت في الثالثة عشرة وقلت : هذه ستكون زوجتي - فمذ اقترنت بمحبوبة طفولتك اختفت فوضاك وأخذتك إلى مرافئ حنانها ونظامها و هندست تقويم أيامك بانضباط عظيم ، ولكن ياساحرنا هناك أمر يحيرني في هذا ،فقد كنت أظنك ستكرس لهذه المحبوبة رواية عظيمة تخلدها بها ،غير أن هذا لم يحدث و اعترفت لصديقك ميندوزا في كتاب (رائحة الجوافة) بقولك:
-إنها تظهر مرتين في (مائة عام من العزلة) وكأنها هي، باسمها وهويتها الكيميائية،وتأتي في قصة (موت معلن) في مناسبتين بالطريقة ذاتها ، لم أستطع توظيف شخصيتها في رواياتي أكثر من ذلك لسبب قد يبدو غريبا، لكنه ليس كذلك : لم أوظفها لأنني أعرفها الآن معرفة تامة لدرجة أنه ليست لدي أدنى فكرة عنها!
أجلس على مقربة منكما ،أنت و جيرالد مارتن الذي أعجبتك رصانته وسمحت له دون سواه بكتابة سيرتك الذاتية ودام عمله معك لإنجازها سبعة عشر عاما، وقلت : من يود أن تكتب سيرته بشكل جيد عليه اختيار كاتب انكليزي ، سمعتك تعترف بأريحية لاتينية كمن يتخفف من ثقل موجع وأنت تعرِّف بشخصك :- اسمي أيها السادة غابرييل غارسيا ماركيز – آسف –فأنا شخصيا لايروقني هذا الاسم لأنه سلسلة من كلمات لم أجد لها أي رابط مع نفسي وبرجي هو برج الحوت ، شهقت حين سمعت اعترافك : يا إلهي ، أيعقل هذا ؟ فأنا المفتونة بأعمالك من مواطني برج الحوت و اسمي لايروق لي لأسباب تختلف عن أسبابك ، أسباب حزينة تتعلق بعصر الكراهية الذي فقست عنه بيضة الفوضى ورماد الحروب.
قلت أخيرا :إن هواجسك عن الحظ والشؤم هي استجابات لمعلومات ودلالات يلتقطها عقلك الباطن وأنك تتبع هذه الهواجس وتمتثل لها دون تردد.