محمود عبد الوهابالومضة ، هي ما يسميها ماركيز باللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها فكرة المشروع الإبداعي. غالبـاً ما تأتي هذه الومضة شديدة الاتّقاد لا يمتلك فيها المبدع إلاّ أن يطفئها بمنجزه . أكثر ما يحصل ذلك في كتابة القصة القصيرة أو القصيدة ، إذ يتطلب هذان الشكـلان الإبداعيان أحياناً مثل هذه الومضة .
إنها حافز شديد التوتر يبرق على شكل صورة بصَرية أو إحساس داخلي شديد الرقّة . يذكر ماركيز ضمن تجربته ، أنه بينما كان يتصفح مجلة " لايف " ، فاجأتْهُ صورة لجنازة "هيروهيتو" ، تظهر فيها الإمبراطورة الجديدة زوجة " ايكيهيتو" . كان الجوّ ماطراً ، وفـي عمق الصورة ، خارج البؤرة ، يظهر الحرّاس بمعاطفهم البيض ، وعلى البعد حشود من الناس ، تحمل المظلات ، بعضهم يضع صحفاً أو قطعاً من القماش على رأسه . في البعد الثاني من الصورة ،في مركزها ، تقف الإمبراطورة وحدها ، نحيلة ومتّشحة بالسواد ، مع خمار أسود ومظلة سوداء أيضاً . رأى ماركيز تلك الصورة ، وأول ما خطر له ، أن في داخل الصورة ، قصة . إمتلكت هذه الصورة ماركيز ، ظلّت تدور في رأسه ، تلفّ وتدور . استبعد ماركيز خلفية الصورة ، انتزع منها الحراس والناس جميعاً ، تأمّلَ صورة الإمبراطورة وحدها ، وهي تحت المطر . يقول ماركيز " سرعان ما استبعدتُ صورة الإمبراطورة أيضاًُ ، وكان الشيء الوحيد الذي بقي لديّ ، عندئذٍ ، هي المظلة . وأنا مقتنع تماماً بأن ثمة قصة في تلك المظلة . وهكذا كانت الصورة عنصراً مثيراً لماركيز . تحضرني الآن سيرة حياة قصة " عابر استثنائي " ، كتبتها في 1993 بمؤثر خارجي إذ اخترقتني عينان من بين ورقتي شجيرة الظلّ التي كانت تحملها إمرأة على ذراعيها المعقودتين . ومضة العينين بقيت تقدح في الرأس طويلاً ، أما صاحبة الومضة فلم أتبين شكلها بوضوح . كان كلّ شيء يأتيني في أوانه ، والهاجس الذي كان يومض بخفاء بدأ يفصح . لم تغادرني المرأة منذ تلك اللحظة حتى قبيل الشروع بالكتابة . بَقيتْ تتحرك في رأسي ، وكأنها تتحرك في غرفتها الخاصة . أشهُر وأشهر من الحذف والتعديلات والإضـــافات تعتمل ُ في الرأس ، حتى حصلت القناعة بمباشرة الكتابة . قد تكون الومضة نوعاً من الحدس ، يأتي بعدها استبصار الكاتب وتركيز انتباهه وقيامه بتحويل ما هو علامة في الومضة ، إلى ما هو لغة وبناء في النصّ ، وفي حالة ماركيز ، ليس أمامه سوى تحويل أجزاء الصورة أو علاماتها إلى منطوق حكائيّ أو وحدات سردية صغرى تنضمّ ، عبر اتصالها ، إلى نظام خاص بها . يلعب الخيال ، بعد الومضة ، دوراً مهيمناً في تطوير عملية الإبداع . إذ تعني الومضة أو اللحظة الحاسمة رسالة خاصة بالحواس تصدر إلى وعي المبدع وخبرته ، ثم تأخذ شكل مُدرَك عقلي يتصل بفاعلية التعبير والتركيب . الخيال ، عند سارتر ، تعبير كامل عن الحرية ، لاكتشاف الدلالات الجديدة ، وعند ريكور تجاور وتزامن بين عالمين مختلفين ، الواقعي و اللاواقعي ، ينتج بهذا التجاور دلالة مغايرة ، ومن هنا، فإنّ ما تثيره الومضة لا يبقى على حدوده بل يتسع ويتعدد ، فالومضة إذن عتبة أولى أو خاطرة أولى تخطف كالبرق في مخيلة المبدع ، وتنفذ إليه ، وتحفّز خيالاته لتشييد منجزه الإبداعي . بعد الومضة ،التي هي الحافز المثير، يتهيأ المبدع للدخول في طقس الكتابة . هنا يقتضي أن يكون الكاتب متوازناً وإيجابياً لتنقاد إليه عملية الكتابة ، فالتردد الذي ينتاب المبدع ، قبل الكتابة ، ليس عجزاًَ بل هو نوع من حيَل اللاشعور للتأمل والتهيؤ. كان "همنغواي" يبـري 20 قلماً قبل أن يبدأ . وكان "توماس وولف" يتجول في شوارع بروكلن طول الليل ، وكان "هايدن" يؤلف موسيقاه مرتدياً باروكة ، وكان "كافكا" لا يكتب إلاّ على نوع خاص من الورق ، وبنوع خاص من الحبر , فالكتابة عنده حالة من التوسل والابتهال . الومضة حافز عند عدد كبير من المبدعين ، وليس جميعهم ، ومن الخطأ أن نعدّها قاعدة منضبطة لكل المبدعين . في حوارٍ أجراه فاروق شوشة ، قال نجيب محفوظ : " الرواية قد تبدأ من إحساس ما ، فكرة ما ، موقف ما ، ولكن قد يحدث ذلك قبل الشروع بالتنفيذ بأعوام ". وفي حوار آخر أجراه صبري حافظ ، قال نجيب محفوظ أيضاً " إن كل تأليفي كان يتم على أساس دراسة وتأمل وتخطــيط قبل الشروع بالكتابة ، فيما عدا " تحت المظلة" و"حكاية بلا بداية ولانهاية " و " شهر العسل " فهذه هي الأعمال الوحيدة التي دخلتُ عليها بانفعال وبلا موضوع ". وهكذا تكون الومضة مثيراً ومحفّزاً ، ويبقى للمبدع عالمه الخاص عند الكتابة ، فلكلّ ساحر طقسه ، ولكل شيخ طريقته .
الومضة
نشر في: 15 ديسمبر, 2009: 05:08 م