TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > الومضة

الومضة

نشر في: 15 ديسمبر, 2009: 05:08 م

محمود عبد الوهابالومضة ، هي ما يسميها ماركيز باللحظة الحاسمة التي تنبثق فيها فكرة المشروع الإبداعي. غالبـاً ما تأتي هذه الومضة شديدة الاتّقاد لا يمتلك فيها المبدع إلاّ أن يطفئها بمنجزه . أكثر ما يحصل ذلك في كتابة القصة القصيرة أو القصيدة ، إذ يتطلب هذان الشكـلان الإبداعيان أحياناً مثل هذه الومضة .
 إنها حافز شديد التوتر يبرق على شكل صورة بصَرية أو إحساس داخلي شديد الرقّة . يذكر ماركيز ضمن تجربته ، أنه بينما كان يتصفح مجلة " لايف " ، فاجأتْهُ صورة لجنازة "هيروهيتو" ، تظهر فيها الإمبراطورة الجديدة زوجة " ايكيهيتو" . كان الجوّ ماطراً ، وفـي عمق الصورة ، خارج البؤرة ، يظهر الحرّاس بمعاطفهم البيض ، وعلى البعد حشود من الناس ، تحمل المظلات ، بعضهم يضع صحفاً أو قطعاً من القماش على رأسه . في البعد الثاني من الصورة ،في مركزها ، تقف الإمبراطورة وحدها ، نحيلة ومتّشحة بالسواد ، مع خمار أسود ومظلة سوداء أيضاً . رأى ماركيز تلك الصورة ، وأول ما خطر له ، أن في داخل الصورة ، قصة . إمتلكت هذه الصورة ماركيز ، ظلّت تدور في رأسه ، تلفّ وتدور . استبعد ماركيز خلفية الصورة ، انتزع منها الحراس والناس جميعاً ، تأمّلَ صورة الإمبراطورة وحدها ، وهي تحت المطر . يقول ماركيز " سرعان ما استبعدتُ صورة الإمبراطورة أيضاًُ ، وكان الشيء الوحيد الذي بقي لديّ ، عندئذٍ ، هي المظلة . وأنا مقتنع تماماً بأن ثمة قصة في تلك المظلة . وهكذا كانت الصورة عنصراً مثيراً لماركيز . تحضرني الآن سيرة حياة قصة " عابر استثنائي " ، كتبتها في 1993 بمؤثر خارجي إذ اخترقتني عينان من بين ورقتي شجيرة الظلّ التي كانت تحملها إمرأة على ذراعيها المعقودتين . ومضة العينين بقيت تقدح في الرأس طويلاً ، أما صاحبة الومضة فلم أتبين شكلها بوضوح . كان كلّ شيء يأتيني في أوانه ، والهاجس الذي كان يومض بخفاء بدأ يفصح . لم تغادرني المرأة منذ تلك اللحظة حتى قبيل الشروع بالكتابة . بَقيتْ تتحرك في رأسي ، وكأنها تتحرك في غرفتها الخاصة . أشهُر وأشهر من الحذف والتعديلات والإضـــافات تعتمل ُ في الرأس ، حتى حصلت القناعة بمباشرة الكتابة . قد تكون الومضة نوعاً من الحدس ، يأتي بعدها استبصار الكاتب وتركيز انتباهه وقيامه بتحويل ما هو علامة في الومضة ، إلى ما هو لغة وبناء في النصّ ، وفي حالة ماركيز ، ليس أمامه سوى تحويل أجزاء الصورة أو علاماتها إلى منطوق حكائيّ أو وحدات سردية صغرى تنضمّ ، عبر اتصالها ، إلى نظام خاص بها . يلعب الخيال ، بعد الومضة ، دوراً مهيمناً في تطوير عملية الإبداع . إذ تعني الومضة أو اللحظة الحاسمة رسالة خاصة بالحواس تصدر إلى وعي المبدع وخبرته ، ثم تأخذ شكل مُدرَك عقلي يتصل بفاعلية التعبير والتركيب . الخيال ، عند سارتر ، تعبير كامل عن الحرية ، لاكتشاف الدلالات الجديدة ، وعند ريكور تجاور وتزامن بين عالمين مختلفين ، الواقعي و اللاواقعي ، ينتج بهذا التجاور دلالة مغايرة ، ومن هنا، فإنّ ما تثيره الومضة لا يبقى على حدوده بل يتسع ويتعدد ، فالومضة إذن عتبة أولى أو خاطرة أولى تخطف كالبرق في مخيلة المبدع ، وتنفذ إليه ، وتحفّز خيالاته لتشييد منجزه الإبداعي . بعد الومضة ،التي هي الحافز المثير، يتهيأ المبدع للدخول في طقس الكتابة . هنا يقتضي أن يكون الكاتب متوازناً وإيجابياً لتنقاد إليه عملية الكتابة ، فالتردد الذي ينتاب المبدع ، قبل الكتابة ، ليس عجزاًَ بل هو نوع من حيَل اللاشعور للتأمل والتهيؤ. كان "همنغواي" يبـري 20 قلماً قبل أن يبدأ . وكان "توماس وولف" يتجول في شوارع بروكلن طول الليل ، وكان "هايدن" يؤلف موسيقاه مرتدياً باروكة ، وكان "كافكا" لا يكتب إلاّ على نوع خاص من الورق ، وبنوع خاص من الحبر , فالكتابة عنده حالة من التوسل والابتهال . الومضة حافز عند عدد كبير من المبدعين ، وليس جميعهم ، ومن الخطأ أن نعدّها قاعدة منضبطة لكل المبدعين . في حوارٍ أجراه فاروق شوشة ، قال نجيب محفوظ : " الرواية قد تبدأ من إحساس ما ، فكرة ما ، موقف ما ، ولكن قد يحدث ذلك قبل الشروع بالتنفيذ بأعوام ". وفي حوار آخر أجراه صبري حافظ ، قال نجيب محفوظ أيضاً " إن كل تأليفي كان يتم على أساس دراسة وتأمل وتخطــيط قبل الشروع بالكتابة ، فيما عدا " تحت المظلة" و"حكاية بلا بداية ولانهاية " و " شهر العسل " فهذه هي الأعمال الوحيدة التي دخلتُ عليها بانفعال وبلا موضوع ". وهكذا تكون الومضة مثيراً ومحفّزاً ، ويبقى للمبدع عالمه الخاص عند الكتابة ، فلكلّ ساحر طقسه ، ولكل شيخ طريقته .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram