الممارسات المتطرفة الشيعية والسنية جعلت الكثير من الناس يقولون: هذا هو الاسلام الحقيقي، وماذا جنينا منه سوى هذا عبر التاريخ؟
لكن "التاريخ" هي اخطر كلمة يمكن استخدامها لصوغ تحليلنا لما يجري. لقد ظهر الاسلام في لحظة خاصة وسط امم كثيرة كانت تغوص في معايير قانونية واخلاقية نراها اليوم قاسية ومتخلفة. الرومان والفرس وقبلهم البابليون واليونان لم يكونوا صورة لما نسميه اليوم، بالحداثة، سياسيا وحقوقيا. التوسع العسكري وتمويل الدولة من الغنائم وتحويل الامم المهزومة الى عبيد او دافعين للضرائب والجزية، هي امور كانت قواعد عمل دولية في اطار الصراع. ولم يكن يمكن لاي اسلام ان يدخل التنافس الدولي عسكريا واقتصاديا الا بنفس قواعد اللعبة تلك. بل لم يكن اي انسان في تلك اللحظة، قادر على تخيل الميثاق الدولي المعاصر لحقوق الانسان او شعارات الثورة الفرنسية، وحتى افلاطون والفارابي لم يتخيلا حقيقة التطور الذي حصل فيما بعد.
لقد اشتغل الاسلام يومذاك داخل القوانين المعاصرة في لحظته، وجاء بمحاولات اصلاحية لتعديلها، ولذلك تأثرت امم كثيرة بالعديد من التعديلات التي قام بها المسلمون لقواعد العمل، ونظم العدالة وطرق حل النزاعات. ويكفي ان نراجع قوانين العقوبات القديمة في شريعة حمورابي او بلاد فارس واللوائح الرومانية لنفهم ان طريقة عمل المسلمين كانت "معقولة" يومها، ولذلك فان هناك ما يتطابق مع الاسلام، حتى في الانجيل والتوراة، خاصة العقوبات الجسدية القاسية التي حاولت ضبط مجتمع بدائي غاية في القسوة والانفلات.
لذلك فان ادانة الاسلام تشبه ان نقول ان حمورابي كان قاسيا جدا، وهو بالفعل قاس جدا بمعايير عصر النهضة الذي لا يتجاوز عمره مئتي عام، ولم تظهر نتيجته العملية الا بعد الحرب العالمية.
الجدل الاساسي ليس هنا، بل لابد ان ينتقل لمراقبة مسار اخر، وهو "مستقبل الشريعة الاسلامية". فالمشرعون من احفاد "بابل" وروما واثينا والحضارات الاسيوية، لم يلتزموا بنسخة اجدادهم القانونية، وظلوا منهمكين في عملية تطوير ل"علل الشرائع" وغاياتها وظروفها. لكن مسلة حمورابي وقوانين روما لم تبق مقدسة بشكل حرفي، فأمكن تطويرها، بينما تأخر تطوير الفقه الاسلامي لانه ظل يسبح في عالم من التقديس والتحريم الحرفيين وسد باب الاجتهاد وانهيارات نظام الخلافة. لكن هذه العبارة الاخيرة معقدة كثيرا وليست كما تبدو، اذ لا يمكن ان نقول ببساطة ان المسلمين مجرد ضحية لسد باب الاجتهاد وقيود التحريم، بل ان التيار العلماني غير مطلع كفاية على جهود كثير من المفكرين والفقهاء الشجعان، الذين يعملون من اقاصي اسيا حتى شمال افريقيا، لدراسة التجديد الديني، لمفاهيم العقيدة في درس الالهيات، وداخل الدرس الفقهي. وقد نجح حفنة من هؤلاء في كتابة تراث كلامي وفقهي جديد ينمو بهدوء، وينتج لنا فتاوى تفتح الباب على التنبؤ بشكل الاسلام المعتدل الممكن تبلوره خلال المائة عام المقبلة.
ان المسلمين المصلحين يخوضون نقاشاتهم الخاصة ونضالاتهم، وهذا تيار بحاجة الى ان نتعرف عليه كي نساهم بمساعدته وتشجيعه، في مهمة معقدة. ويكفي ان نعلم بوجود نحو ١٠ فتاوى خلال العقد الاخير، تمنع قتل "المرتد" وتلغي فتاوى عمرها الف سنة، كانت تحكم باعدام "المرتد". وهذا مجرد نموذج بسيط، اذ ظهرت في مرحلة ما بعد دولة الخميني مراجعات كبيرة، وفتاوى مهمة تقوم بتحسين وضع المرأة والعلاقة مع الديانات الاخرى، وشؤون الاقتصاد، ونظريات الدولة ومعايير الحرب والسلم..الخ. وفي مرجلة ما بعد داعش سيتشجع هؤلاء المجددون الذين يعتقدون ان الشريعة كانت حكيمة في عصر ظهورها، وانها لابد ان تبقى حكيمة معتدلة وقادرة على التطور مع تغير ظروف البشر والعالم، ومن حسن حظنا ان لدينا مجلة متخصصة عراقية تولت رصد التيار الديني التجديدي منذ ربع قرن، هي "قضايا اسلامية معاصرة" التي اتمنى ان يتيح رئيس تحريرها عبدالجبار الرفاعي، نسخاً الكترونية من اعدادها القديمة.
ليس من السهل ان نزعم بأن النبي لو ظهر في هذا الزمن فانه سيصبح ليبراليا مثلا، لكن "داعش" وامثالها، ليست ممثلة للطاقة الروحية الاسلامية التي ظهرت قبل ١٤ قرنا وستظل متواصلة مثل باقي التراثات الانسانية.
قسوة الاسلام وداعش والعلمانية
[post-views]
نشر في: 17 يناير, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 2
محمد حميد رشيد
ما يطفوا الآن على السطح من حركات متطرفة لا يمكن أن تمثل الإسلام لا بمعناه السياسي ولا الحضاري ولا الإنساني بل أنها ترفض الإسلام الوسطي المعتدل الذي يعرفه الناس ؛ والذي يحاربوه لإنه يتصدى لتخلفهم و وحشيتهم . والإسلام كمنهج حياة نجح في تأسيس دول أمسكت بزما
محمد حميد رشيد
ما يطفوا الآن على السطح من حركات متطرفة لا يمكن أن تمثل الإسلام لا بمعناه السياسي ولا الحضاري ولا الإنساني بل أنها ترفض الإسلام الوسطي المعتدل الذي يعرفه الناس ؛ والذي يحاربوه لإنه يتصدى لتخلفهم و وحشيتهم . والإسلام كمنهج حياة نجح في تأسيس دول أمسكت بزما