من أثقل التركات التي تورّثها الدكتاتوريات للأنظمة القائمة على أنقاضها، الذهنية الدكتاتورية التي تظلّ تتحكم بالمؤسسات الجديدة لحقبة غير قصيرة. والمشكلة ان المرض الدكتاتوري ينتقل أيضاً الى المؤسسات الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل، فيبقى الطبع يغلب التطبّع إلى حين.
الخميس الماضي أُطلِقت في بغداد "مبادرة وطنية" لاعتبار العام الحالي "عاماً لحرية التعبير وتعدد وسائل الإعلام في العراق". المبادرة أعلنتها هيئة الإعلام والاتصالات، وهي من "الهيئات المستقلة" التي أنشأها نظامنا الجديد وكان منتظراً أن تساهم في إشاعة سلوك جديد وترسيخ تقاليد جديدة في ميدان الإعلام والاتصالات، منقطعة عن سلوك وتقاليد وزارة الإعلام في الحقبة الدكتاتورية، فتلك الوزارة كانت مُعينة من رأس النظام بوصفها قيّماً ورقيباً على الإعلام ووسائله ومنظماته.. هي التي تمنح صكوك الغفران للصحف والإذاعات والتلفزيونات ووكالات الأنباء المسموح لها بالنشر والبث، فضلاً عن تحديد سياساتها وتوجهاتها التي يعني الخروج عليها قطع الرؤوس.
من حيث المبدأ المبادرة جيدة، وتجيء في وقتها، بل متأخرة بعض الشيء عن وقتها، ولكن موضوعياً لم يكن ممكناً إطلاقها قبل الآن، وبخاصة في عهد الحكومة السابقة التي تبنّت سياسة التضييق على حرية التعبير بمختلف الأشكال والوسائل، وبالذات التعبير عبر وسائل الإعلام، في مخالفة صريحة للمبادئ الأساسية التي قام عليها دستور 2005 والأحكام التي تضمّنتها مواده الخاصة بالحريات.
بكل أسف تصرّف أصحاب المبادرة كما لو كانوا وزارة إعلام لنظام دكتاتوري، فقد جعلوا من أنفسهم قيماً ورقيباً على العمل الإعلامي في البلاد فلم يطرحوا مبادرتهم على الوسطين الإعلامي والحقوقي، أو في الأقل نخبة منهما استئناساً بالرأي، ثم انتقوا شركاءهم في المبادرة انتقاء غير مستند إلى أسس موضوعية (اليونسكو ومرصد الحريات الصحفية ونقابة الصحفيين وشبكة الإعلام العراقي).. هذا الانتقاء يعكس ويجسد الذهنية الدكتاتورية التي تتوارث.. هيئة دولية واحدة، هيئة رصد واحدة، نقابة واحدة، ومؤسسة إعلامية واحدة! .. أصحاب المبادرة اختاروا أن يتغافلوا عن حقيقة أن الفضاء الإعلامي أوسع بكثير من أن يقتصر على هؤلاء الشركاء.. ثمة الكثير من الهيئات الدولية المعنية بالإعلام وحريته، وثمة أكثر من مركز رصد للانتهاكات التي تطال الحريات الإعلامية وحقوق الإعلاميين، وثمة العديد من النقابات والاتحادات الصحفية، وثمة الكثير من المؤسسات الإعلامية الوطنية الرصينة، وثمة الوسط الأكاديمي الإعلامي أيضاً.
لن تكون المبادرة التي أطلقتها الهيئة وطنية، ولن تحقق الأهداف الجليلة المُعلنة، ما دام توجد في خلفيتها عقلية تفكر بعقلية النظام الدكتاتوري وتتصرف على طريقة وزارة الإعلام في العهد الدكتاتوري الذي كانت الأشياء فيه تُرى بعين واحدة تصوّب نظرها في اتجاه واحد.
أخشى أن تؤول المبادرة الجيدة من حيث المبدأ إلى المصير ذاته الذي ختمت به هيئات المصالحة الوطنية حياتها الحافلة باللغو .. مئات ملايين الدولارات أُنفقت على الاجتماعات والمؤتمرات والندوات والولائم الباذخة على مدى عشر سنوات.. والنتيجة: لا مصالحة ولا هم يحزنون!
المبادرة الوطنية لحرية التعبير..!
[post-views]
نشر في: 19 يناير, 2015: 09:01 م