TOP

جريدة المدى > سينما > بلد تشارلي.. أداء مُبهر ورؤية إخراجية عميقة

بلد تشارلي.. أداء مُبهر ورؤية إخراجية عميقة

نشر في: 21 يناير, 2015: 09:01 م

يحتفي مهرجان روتردام السينمائي الدولي كل عام بعرض أفلام نوعية تتوزع على برامج احترافية متعددة من بينها برنامج Limelight الذي يضم هذا العام 28 فيلماً لافتاً للانتباه نذكر منها "الخطيئة المتأصلة" للأميركي بول توماس أندرسون، "السماء فوقنا" لليوناني ماري

يحتفي مهرجان روتردام السينمائي الدولي كل عام بعرض أفلام نوعية تتوزع على برامج احترافية متعددة من بينها برنامج Limelight الذي يضم هذا العام 28 فيلماً لافتاً للانتباه نذكر منها "الخطيئة المتأصلة" للأميركي بول توماس أندرسون، "السماء فوقنا" لليوناني مارينوس غروثوف، "تمبكتو" للموريتاني عبدالرحمن سيساكو، و "بلد تشارلي" للمخرج الهولندي رولف دي هير الذي انتقل إلى أستراليا منذ عام 1959 ودرس السينما هناك، وأنجز 20 فيلماً نال عن بعضها العديد من الجوائز العالمية المرموقة.
لا شك في أن المخرج دي هير ينتقي ثيمات سينمائية دقيقة وحساسة. وقد استعان في كتابة القصة السينمائية بالمواطن الأصلي ديفيد غولبليل الذي جسّد الدور الرئيس في الفيلم وأصبح مشهوراً خصوصاً بعد أن نال جائزة أحسن ممثل من مهرجان "كان" السينمائي عن أدائه المتقن في فيلم "بلد تشارلي"، مدار بحثنا ودراستنا النقدية.
لقد وضعنا المخرج دي هير منذ البداية أمام مشكلة عويصة وقائمة لم تنجح السلطات الأسترالية لحد الآن في إيجاد الحلول المناسبة لها وهي مشكلة السكّان الأصليين من ذوي البشرة السوداء الذين يعتبرون أستراليا بلدهم ولا يجدون حرجاً في اعتبار البيض محتلين وطارئين عليهم. وإذا كان العِرق الأبيض يسكن المدن والحواضر فإن السكان الأصليين لأستراليا يفضلون العيش في كنف الطبيعة تماماً كما يفعل تشارلي "ديفيد غولبليل" أو صديقه بلاك بيت "بيتر ديغير" وغيرهم من المواطنين الأصليين الذين يعيشون في بلدة (آرنهم) التابعة للإقليم الشمالي في أستراليا وعاصمته داروين التي دارت فيها وقائع الفيلم وأحداثه.
تُشكّل المشاهد الافتتاحية للفيلم مدخلاً جيداً للرؤية الإخراجية التي تعول كثيراً على اللغة البصرية التي تقول كل شيء باقتصاد شديد . وقد نجح دي هير في هذا الرهان، فعلى الرغم من شحة الحوار إلاّ أن المتلقي قد أدرك منذ البدء أن المواطن الأصلي مقموع ومطارد ويكفي أن نشير هنا إلى أن الضابط الأسترالي لوك "لوك فورد" قد صادر بندقيتي تشارلي وصديقه بلاك وحجز سيارتهما لأنها غير مسجلة، كما صادر رمح تشارلي الخشبي الذي يصيد به سمك القاروص الأمر الذي اضطره لأن يتوغل في الغابة ويعيش في أعماقها بعيداً عن أعين الأستراليين البيض الذين ضيقوا الخناق على المواطنين الأصليين في محاولة يائسة لمحو تراثهم، وطمس عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية، وتشويه منظومة القيم التي يؤمنون بها. وبما أن هذه الغابات تتعرض للأمطار الشديدة فقد سقط تشارلي مريضاً وتمّ نقله إلى مستشفى في مدينة داروين التي لم ينسجم فيها كثيراً حيث سحب المغذي من ذراعه وغادر المستشفى ليصادف على قارعة الطريق امرأة تشتري الكحول بطريقة غير شرعية وتبيعه للمواطنين الأصليين الذين تطاردهم الشرطة وتحطم أكواخهم الأمر الذي يغيظ تشارلي فيقدم على تحطيم زجاج سيارة الشرطة لينتهي به المطاف في السجن وتبدأ صفحة جديدة من الاستعباد الذي يتعرض له حيث يُحلق شعر رأسه ولحيته وشاربيه بحيث يجد المتابع له صعوبة في التعرف على ملامحة الجديدة وسط عزلته التي لم يألفها من قبل.
ربما تكون رقصة المشهد الأخير من الفيلم هي أنجح خاتمة لهذا الفيلم الذي أراد مخرجه أن يقول بأن عادات وتقاليد المواطنين الأصليين لا يمكن أن يطمسها الأستراليون البيض الذين سلبوا الآخرين حقوقهم، وهيمنوا على كل الوظائف الرسمية في البلد الذي اختصره عنوان هذا الفيلم بأنه "بلد تشارلي" أو بلد المواطنين الأصليين في أستراليا قبل أن يكون بلد المواطنين الجدد الذين انحدروا من أوروبا وغيرها من أصقاع العالم الأوروبي على وجه التحديد.
أثنى العديد من النقاد على أداء غولبليل السلس والمنساب بعفوية كبيرة حيث لم نشعر كمتلقين على مدى 108 دقائق بالرتابة والملل لأن قصة الفيلم البسيطة كانت تهيمن على المشاهدين جميعاً وتحرضهم على التفاعل مع حيثياتها وتفاصيلها الصغيرة التي تناقش موضوعة الحريات الفردية والجماعية، وحق العيش للمواطنين الأصليين بالطريقة التي يرونها مناسبة لهم دون أن تُقوَّض منظومة قيمهم الاجتماعية والأخلاقية والنفسية. وفي هذا السياق لابد من الإشادة بدور المصور إيان جونز الذي قدّم في خاتمة المطاف لقطات ومشاهد ساحرة أثرت الفيلم وعمقت العديد من دلالاته البصرية والجمالية بعد أن شذبتها رؤية المونتيرة البارعة تانيا نيمة التي قدمت لنا فيلماً أقل ما يُقال عنه بأنه عذب في دفقه وسلاسته على الرغم من ثيمته الدرامية المثقلة بالأحزان.
أنجز دي هير 20 فيلماً نذكر منها "ذيل النمر"، "شكراً يا جاك"، "الغرفة الهادئة"، "العجوز الذي يقرأ قصص الحب"، "مشروع ألكساندرا"، "عشرة زوارق"، "بلد تشارلي". كما فاز بعدد من الجوائز المهمة بينها جائزة النقاد الخاصة في مهرجان "كان" عن فيلم "عشرة زوارق"، وجوائز مهرجان الفيلم الأسترالي لأفضل مخرج وأفضل فيلم وأفضل سيناريو. وجدير ذكره بأن المواطن الأصلي ديفيد غولبليل قد نال جائزة أفضل ممثل في مهرجان "كان" عن دوره في فيلم "بلد تشارلي" الأمر الذي أمدّه بالشهرة والذيوع ليس في أستراليا حسب، وإنما في المشهد السينمائي الأوروبي على وجه الخصوص.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

مهرجان الجونة السينمائي يعلن عن مواعيد دورته الثامنة

السينما كفن كافكاوي

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram