أسعى لتسجيل مسألة ضمن ظاهرة ارتباطنا ثقافياً بالثقافة الغربية. فكما هي طريق تحديث وانتفاع حضاري، هي بالنسبة لنا أحياناً عدوى بإشكال مبكر ليس في أوانه. فقد شهد الغرب منذ ثمانينات القرن الماضي انهياراً متواتراً للبنى المؤسسية التي كانت تمنح المجتمع الغ
أسعى لتسجيل مسألة ضمن ظاهرة ارتباطنا ثقافياً بالثقافة الغربية. فكما هي طريق تحديث وانتفاع حضاري، هي بالنسبة لنا أحياناً عدوى بإشكال مبكر ليس في أوانه. فقد شهد الغرب منذ ثمانينات القرن الماضي انهياراً متواتراً للبنى المؤسسية التي كانت تمنح المجتمع الغربي معنى مستقراً وانتهى الى ضرب من الإشباع في مجال الظواهر التجريدية والقيم الكبرى، الاقتصادية والايديولوجية. اتضحت نتائج ذلك "شعبياً" عندنا واربكت الاتجاه العام للنضال وانتزاع حق العيش من غير ان تترك للتنظيمات المهنية والفنية والحرفية العامة ...الخ منهاجاً بديلاً ولا أسلوب عمل جديداً. الثقافة وحدها لا تفعل. هي ليست بديلا عملياً مباشراً. تطبيقات المنهجية هي الموصولة بالواقع العملي.
معروفٌ ان المؤسسات وأصحابها، ومنها المؤسسات الثقافية، محميون جيداً من آثار ذلك بسبب مَنعَتهم الاقتصادية وبسبب الرفعة الطبقية التي تبعدهم عن الشارع وظروف العيش وليسوا على كبير اهتمام بمتاعب الأفراد اليومية إلا بقدر ما يؤثر ذلك في استمرار خدماتهم ونوعها. هكذا هم هناك. هم على أية حال يديرون الحياة من بُعد.
بإزاء ذلك، بدأت الجماهير تجد لها حلولا، هي حلول المُعرَّضين للكارثة. فبدلا من ذلك، هي اليوم تتمركز حول اليومي العابر والأنشطة العبثية : مخدرات، مباريات خيول، كرة قدم، موائد قمار، سباق سيارات، مصارعات تمثيلية ..الخ لكن الجماهير من ناحية ثانية استوعبت فكرياً أسباب حصارها الجديد، فتمسكت بشعارات "جمعانية" وتنظيمات سياسية ومهنية واحياناً تجمعات ثقافية وحركات أنثوية. تغذي هذه كلها ثلاثةُ مطالب جديدة أوصلتهم لها الظروف المستجدة للحياة وارتفاع مستوى المعيشة: أول هذه المطالب انها صارت تريد حصتها من الجماليات الجديدة للحضارة. لقد وصلت جماهير الشعب الى مكان وزمان يمنحانها مضموناً طامحاً غير القنانة والكدح سنين متوالية دونما رؤيةً للسماء او الانتباه للحياة. هم يريدون حضور المتعة الفردية ضمن "المتعة الجماعية" .. هم الآن يطالبون بحق "الحياة المِتَعية" من المؤسسات والشركات. وكان هذا اكثر وضوحا واخطر في التنظيمات السياسية التي ارتبطوا بها اول الوعي. تلك التنظيمات والأحزاب التي منحوها حماستهم وقواهم الجسدية وحتى أرواحهم في أمثلة كثيرة تعرفها السجون ودوائر الأمن في الشرق الأوسط كله وفي شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها ممن شهدت استشهادات وعذابات او خسارات فرص وحياة آمنة سليمة من الخوف والحاجة. انفرط من هذه القضية شق اخر صنعته تلك المؤسسات المضادة، كفعل مضاد، ومكمِّل، تثأر به من الكوادر المتقدمة في التنظيمات السياسية وفي الثقافة بالشراء او بالإغراء او، وهذا هو المهم بتبني أفكار تفيد من الوعي الجديد. فمهما تعددت أسباب النكوص "النضالي" للمثقفين، بخاصة، تظل الحجج البارزة، وهي فكرية الظاهر او أخلاقية مبدئية او انتباهات قومية.. الخ، هي تظل أسبابا ليست الأولى، ان لم تكن حججا مصطنعة وتسويغات. فالسياسي الناضج، وهو مثقف تقدم وعيه، لا يمكن ان يقنعنا بانتباهه الآن الى الحرية الشخصية او الى الرداءات الخفية في الأحزاب المناضلة او الى انه ابن أمَّةٍ وهي أولى بطاقته النضالية لتحقيق أهدافها. قد تصح هذه الحجج لمن تستروا على نقص في سلامة الاعتقاد او على نقص في الثقافة السياسية وأولاء لا ينفعهم الانتباه المتأخر ولا أظن أمتهم ستفيد منهم. هم يريدون ان ينالوا من مجالاتها جدوى.
فاذا أضفنا الحرمان من الفرص ومن الحياة الآمنة والحرمان من الانتعاش المادي ومن المواقع والحظوة الاجتماعية والنجاة من البطش والمتابعة والخلاص من الحياة القلقة والتوتر اليومي، نجد ان فرصة التحول مغرية للمثقفين لينجوا من هذه كلها أولا وليحظوا بفرصة رفاه ثانيا.
لكننا بعد التحولات السياسية الشديدة التي حصلت في القارات كلها وبعد التقدم الاقتصادي واتساع مساحات الرفاه، مثلما الوعي العميق بضرورة التمتع بفرصة العيش، وصلت الرغبة بهذا العيش وبفرصة الحياة الى كل القطاعات. أوصلها الوعي الحضاري والرفاه الاقتصادي. ومن هؤلاء شبكات وجماهير المنظمات السياسية ممن ما يزالون في المواجهة الصعبة او اولائك الذين انحسروا بهدوء. هم جميعا الان يقدمون تنازلات بنسب مختلفة. منها بحياء مقنع بشتى أنواع الأقنعة ومنها مباشرة تعلن الكفر بما كان والإيمان بالإفادة مما يكون! وما الفضائح والإشارات الى الانتهاز و "الرفاهية الخاصة" والعيوب الأخلاقية...الخ التي يشير لها الأقطاب او الكوادر المتقدمة، بخاصة من المثقفين، بعد تحولهم او بعد ابتعادهم، الا ترضيات مفضوحة لأعدائهم ولتأكيد كراهة الماضي وإعانة السلطات او المنظمات المعادية على إدانة تلك التأسيسات الأولى. هذا الرفض او الشتم انتقل عونا مريحا الى جبهة البوليس والمنظمات الثقافية المرتبطة بالسلطة او بأجهزة الأمن.
اعتقد بان التحول العقائدي النظيف والذي هو نتيجة تطور ثقافي وتقدم في الوعي، لايفقد نظافته ويظل اختلافه ضمن دائرة الاحترام. ولنا أمثلة عديدة من أولاء المثقفين الذين انسحبوا بشرف وظلوا في ابتعادهم موضوعيين شرفاء .
ونحن لا نغفل تدخلات السايكولوجيا والاحتياجات البشرية، لكننا نظل اكثر قربا في حديثنا الى مساندة الاستقامة والشرف الإنساني والقيم العليا التي يؤتمن عليها المثقفون المناضلون.
سَحَبنا هذا الاحتجاج المر من موضوعتنا الأولى التي اردنا تأكيدها إقرارا باحتياجات الانسان التي أنضجتها الحضارة وادى اتساعها الى ان تصير حاجة الجميع بمن فيهم من كنا نتفاخر بتضحياتهم. العقل العلمي الحديث والإدراك الإنساني يمنعاننا من حرمان قطاعات فاضلة من حقها بعيش آمن والابتهاج بالفرص السانحة. لسنا أبدا مع الافتخار الفارغ بحرمانهم من سلامهم اليومي وان يتمتعوا بجمال الحياة. هم ليسوا اقل حقا من سواهم. فعلى العقل الذي يحترم المثل والقيم النضالية ان يحترم هذا الحق ايضا. أما انعدام المعادلة المنصفة، فهذه محنة فكرية الجميع مسؤولون عنها.
وهذه النقطة كانت سبباً لتمردات او انحرافات الكثيرين من المثقفين و"المُرهَفين" على منظومات العمل السياسي ..
الظاهرة الجديدة لا تشترط إبعاد الجماهير عن الوعي السياسي ولا عن العمل السياسي. هي تؤكد وجوبهما. الحاجة قائمة لفهم طريق التحضر ولأنها (الجماهير) بحاجة الى قوة مُغَيّرة توفر لها، في مجرى الحياة الشاق والمُصادِر لعموم حياتهم، فرصةَ التمتع بالعيش وربح المعنى. فجماهير الأحزاب والمنظمات السياسية وحتى جماهير التنظيمات الدينية ما عادت تكتفي بالمعنى الأخروي، هي تريد معه الدنيوي أيضاً! هي صارت تريد الاثنين وتقدس الاثنين وأيٌ منهما لا ينفي العمل من اجل الثاني. هذه حقائق واضحة اليوم و يجب ان تُحْترَم. التغطية لا تجدي!
كما ان الرابطة الاجتماعية في العمل السياسي الجديد ما عادت تقوم على مصادرة الفردانية، حجة الغرب الاولى في الحرب الباردة، هي صارت تعتمد الإحياء الفردي ضمن اعتماد كل الطاقات في العمل الجماعي.
توالي زمن الكدح بلا ماضٍ ولا مستقبل، لم يعد مقبولاً. فلكي يعيش الانسان حياته الجديدة يحتاج لأن يحقق، تضامنياً، شروط العيش ويكون له مسعىً مواز لنيل حصته من متعة العيش اليومي ومن رؤية الجمال في الحياة. هو مسعى المجتمعات للخروج من متاهة حاضرها الى الزمن الأصفى انسانياً والذي يوفر عيشاً مشتركاً لا يكتفي بالقوت، او الوقود. زيادة الأجور وارتفاع مستوى المعيشة، إذا هما اضعفا الصراع الطبقي، فهما أكدا بقوة ان مستقبلاً افضل صار يعني، في العرف الثقافي الحضاري الجديد، مستقبلا جمالياً واخلاقياً تتضح فيه قيمة الحياة عيشاً وأملاً..
أليس هذا مدخلاً ثقافياً للتوعية الحداثوية التي توفر مشاركة انسانية تمسح الألوان والأعراق والجندر في مسعى جماعي ثوري "جديد" لتوفير الخبز مع جمال الحياة وسلامها؟ الحياة اليوم ما عادت عذاب عيش ومواجهات حسب، الحياة اليوم مأثرة متكاملة تستحق محبتنا!