العقلانية الأوروبية والواقعية السحرية
بعد أن تناولنا الشاي المنعش تحت ظلال النخيل والياسمين ، حدثتنا عن مدينة اركاتاكا ،وصورت لنا حمّى مزارع الموز التي اجتاحت شمال كولومبيا قبل ولادتك بعدد من السنوات حين أمست اركاتاكا شبيهة بمدن الغرب الأميركي وفقدت خصوصيتها اللاتينية : فثمة قطار يشق البلدة بدخانه الأسود ومنازل خشبية ونساء ضائعات ينتظرن أمام الفندق يحملن مظلاتهن الملونة وحولهن يحوم الرجال والناس يتناقلون الحكايات حول الثراء اللعين والمستوطنات السكنية التي أقامتها الشركات الأميركية وسط مزارع الموز .
صحبك جدك يوما لرؤية المستعمرة من أطراف المزارع فشاهدت ماوصفته لاحقا بأنه عالم "غاتسبي العظيم" المترف : برك سباحة زرقاء وفتيات يلعبن التنس وسيارات مكشوفة تقودها نساء ساهمات بملابس بيض شفافة، مشهد يتناقض تماما مع فقر مدينتك وطرقها الموحلة.
تعرضت مدينتك لعاصفة مدمرة حين أغرقها المال الذي جذب الانحطاط للبلدة فاكتسحها المقامرون والعاهرات وحثالات البشر وكانت جدتك قد شهدت هذه العاصفة التي اجتاحت مدينتها وروت لك قصصا دونتها في روايتك الساحرة ( عاصفة الأوراق ) و كنت تعني إعصار حطام الإنسان وانهياره أمام جائحة حمّى الموز.
قلت : عاشت المدينة الأحداث الواقعية بسحرها وغرابتها ولم تكن الواقعية السحرية اجتراحا عصريا وافدا عليها أبدا إنما كانت واقعا نعيشه في منطقتنا وتمتد جذورها وتجلياتها في الحياة وتفاصيلها اليومية وأخبرتنا بأنك قرأت أول عمل أدبي ينتمي للواقعية السحرية وتأثرت به وهو كتاب ( يوميات كريستوف كولومبس ) الذي تحدث فيه المكتشف عن نباتات خرافية ومجتمعات خيالية ،وعقبت : لا شيء في واقعنا السحري يدعو للعجب فكل الأشياء الغريبة هنا تبدو اعتيادية جدا.
علق ميندوزا : لازلت مندهشا من تقبل القارئ الأوروبي لواقعيتك السحرية !
ضحكت وقلت : أجل تقبلها الأوروبيون وأحبوها، لكنهم لم يفهموا سحر الواقع كما نفهمه نحن ولبثوا حائرين إزاءه ، لأنهم عقلانيون أكثر مما ينبغي ، يعنون بسعر الطماطم والبيض والحسابات الأرضية أكثر مما يعولون على المخيلة والدهشة فلا يدرك الأوروبي سحر الواقع أبدا ولايمتلك ذلك الحنو والدفء الانساني الذي نمتلكه..
ونعلم أنك أمضيت ردحا من شبابك في أوروبا لكنك لم تحب المدينة الأوروبية القاسية ،ففي بلدك كان للفقر جانبه المشرق حيث الحياة الكاريبية حياة انسانية مهما كان الأمر ، ففيها يمتلك المرء أصدقاء في كل مكان واللقمة التي تكفي لاثنين يمكن أن تكفي ثلاثة ،أما باريس فقد بخلت عليك بلقمة يوم أفلست وجُعت وبدأت تتسول في عربات المترو وتبحث عما يسد رمقك في قمامتها عندما أصبحت عاطلا بعد إغلاق صحيفة الاسكبتادور التي كنت تعمل مراسلا لها في فرنسا فلم تجد مكانا يؤويك وكنت تنام على مقاعد محطات المترو متجنبا الشرطة التي كانت تشتبه بك لأنك تشبه الجزائريين بينما كان الجزائريون يرتابون بك.
-هل تجد سببا أيها الساحر لتغلغل فكرة السحر في مجتمعاتكم؟ سألتك إثر تصريحك عن العقلانية الأوروبية وإشارتك الى تحكم العقلية الديكارتية في فرنسا.
قلت : مجتمعنا الكاريبي مزيج من الأعراق والأجناس البشرية ، فهنا سود أفارقة جلبهم المستعمرون الإسبان كعبيد الى العالم الجديد ومعهم وصل قراصنة سويديون وبريطانيون ثم لحق بهم خليط من الصينيين والهنود والأتراك والعرب ، وقد انصهر هذا التنوع البشري وانتج ثقافة حية مترعة بالسحر والغرائب.
وهمست لكما : مثلما أنتج نساء خلاسيات فاتنات ورجالا مغامرين، فنساؤكم سطعن مثل سبيكة معادن ثمينة تحمل ختم شعوب آسيا وأفريقيا وأوروبا والهنود الحمر.
وضحكتَما جذلا..
يتبع