ينحت الشاعر خليل المعاضيدي وجوده في القصيدة، إذ هي الأثر والأيقونة والشاهد، وإذ هي المجال الذي يمارس فيه طقوسه في البحث عن (قوت الأرض) عبر اللغة، وعبر المعنى، إذ يفصح فيها عن رغائبه، أو يحتال من خلالها على العالم الفظّ، وعلى يوميات الاستبداد والقمع و
ينحت الشاعر خليل المعاضيدي وجوده في القصيدة، إذ هي الأثر والأيقونة والشاهد، وإذ هي المجال الذي يمارس فيه طقوسه في البحث عن (قوت الأرض) عبر اللغة، وعبر المعنى، إذ يفصح فيها عن رغائبه، أو يحتال من خلالها على العالم الفظّ، وعلى يوميات الاستبداد والقمع والخوف والعصاب. القصيدة هي أول ما يجسّه من جسد المعنى، أوهي قميصه(اليوسفي) المسكون باللذة والغواية والرفض والخطيئة، مثلما هي بيت الشفرات التي يطأ بها الدلالة والفكرة والحزب والمكان والمرأة والآخرين...
لغة المعاضيدي طقس في المناورة وفي الاستعارة الباذخة، وفي ترويض توحش المعنى، وفي استعادة اللغة بوصفها فأسا او إيروسا، اوحتى بوصفها بيتا أو هواء كما يقول هيدغر.. هذا التلبّس والانغمار في شعرية اللغة يعكس وعي الشاعر القلق ماتمثله في مشروع حياته، وفي أسئلة وعيه( الشقي)، وكذلك إزاء الكثير من الأفكار التي ظلت تصطخب حوله، مثلما يعكس حساسيته المفرطة إزاء اشتغالاته التصويرية والتعبيرية على الكثير من الاستعارات والمجازات والأقنعة، تلك التي يمارس من خلالها وظيفة الثوري والحالم والمتمرد، فضلا عن ما يمارسه في لعبة التواري والاختباء خلاصا أو تلذذا، أوهروبا او بحثا عن الإشباع..
المعاضيدي ليس شاعر أفكار، أو يافطات، فهو كثير الجنوح الى استدعاء المعنى، لكنه ليس المعنى الذي يقصده الجاحظ، بل المعنى/ الزي الذي يكون قناعه وإيروسه وصوته ومنقذه ومصدر تعويضه، وهذا الجنوح يعكس جوهر أزمته النفسية، ومركّب صراعاته إزاء مايحوطه من بشاعة وقبح، حتى تبدو كتابة القصيدة وكأنها محاولة لاستمكان مايمكنه من المعاني المحشوة بالأفكار والرؤى والمواقف والشتائم والرغائب والأحلام، فضلا عن ما تملثه من طاقة مولدة لإشاعة مناخات من البهجة المضادة، تلك التي تتجاور فيها الإشارات الموحية الى الطبيعة/ بعقوبة، البساتين/ خريسان، مع الإشارات الى الوجود والأفكار، فضلا عن الإشارة الى المرأة/ الام والحبيبة الغائبة، والألوان والسعادات المطاردة، إذ هي تعكس بكليتها جوهر مغامرته المتمركزة حول أنوية الشاعر وهي تلاحق مراثيه، تلك التي يستحضرها بوصفها وقوفا عند عالم مسكون بالفقد والخطايا، والرعب والملاحقة...
عندي احتفاء المساكينِ،
عندي عراكٌ لكل المواسمِ،
في جسدي نادلٌ يحتويني،
ومزرعةٌ للبكاء المكابر هذا الذي يحتمي الفقر في دَغْلِهِ
المتوهِّجِ،
يا امرأةً من يسارِ الدفاترِ،
تهبطُ في موسمِ الخوفِ
تكبرُ في ثوبها طفلةُ السرّ،
سيدتي عندما يرتوي الجرحُ من جسدي،
يشربُ الحزن أوجاعنا،
ينحني الشجر المرُّ،
في دورة الريحِ،
علَّ الفراتَ المغامرَ
يمحو انحسارَ النوافذِ من قاعة القلبِ،
علَّ الحليبَ الأخيرَ يكاشفُني لحظةَ الصدقِ،
علَّ النساءَ النحيفاتِ يفصحنَ عن هاجسٍ،
تستوي النار والبرد بين أصابعِهِ،
هل أتاكم سفير الدُّوارِ المباركِ؟
هل يصطفي الجرح أبناءَهُ؟
ها هنا يذبل المطرُ،
الضحكُ،
الأصدقاءُ
خليل المعاضيدي الشاعر الشهيد، والشاهد، والواقف عند تاريخ مفصلي في تاريخنا الثقافي، تاريخ المواجهة والاستلاب، تاريخ البطل والضحية، يتمثل عبر هذه القيمومة الى صوت نافر في اللحظة الشعرية السبعينية، تلك التي حاولت الخروج من معطف التجريب الستيني العاصف، والى نوع من القصيدة المؤنسنة، والمشغولة باليومي، لكن عبر الكثير من المعطيات والشكلات الفنية، بدءا من بلاغة الإيقاع وامتداداته التفعيلية التي أغناها سعدي يوسف كثيرا، وليس انتهاء بالقصيدة المفتوحة في نثريتها وسيولتها وتدفق تناصها مع التاريخي والأسطوري والمثيولوجي والسحري والصوفي، فضلا عن اقترابها من حافات الواقع الموحش، والتي تلبس عبرها الكثير من اشتغالات الهمّ السياسي والاجتماعي والنفسي، تلك التي وجد فيها المعاضيدي مساحاته الأثيرة في توقيع أسئلته المستنفرَة، والكشف عن همومه الشخصية والوطنية، وفي انخراطه في لعبة الاستعادة الثورية للعالم المفقود/ جنته في المكان والأنوثة عبر لغته الشعرية الباذخة..
الدلالة الوظيفية، والوظيفة الشعرية.
انشغل الشاعر كثيرا بمفهوم المجاورة النسقية للشعر، وتوسيع مدياته ليكون فضاء تعبيريا، واستكشافا للوجود، عبر الدلالة بوصفه الفلسفي، وعبر (تجسير الفجوة) ما بين الشعر والفلسفة والأفكار بشكل عام، إذ وضع هذا التمثلات في سياق التعبير عن الأفكار، وعن الرؤى التي يبصر من خلالها العالم، العالم الذي يتحول ويحارب ويثور، مقابل العالم اليومي الذي يحاصره، وهو عالم مسكون بالخوف والرعب والكآبة..
هذا التقابل ما بين العالمين يتحول الى مجال تأملي تغلب فيها وظائفية الاستعارات العامة، والصور التي تعمّق نظرة (الشاعر الحزبية) الى فكرة التقابل، لكن إدراك المعنى الشعري يفضي الى خرق الكثير من الحجُب، حتى يبدو من خلالها الشاعر وكأنه حامل الفوانيس أو سارق النار، أو الضحية/ القربان في الأساطير وهو يحمل وزر ما تصنعه الدلالة الوظيفية للعالم الاول..
الانتقال من الدلالة الوظيفية الى الوظيفة الشعرية يكسر هذه الرتابة، ويضع الشاعر دائما عند عتبة استنطاق المعنى الشعري، تلك التي تتحول فيها القصيدة الى منبه نفسي للبحث عن لذة الإشباع الذي يعاني من تشوهاته الداخلية، حتى يبدو الأسلوب الذي تخلتط فيه مؤثرات ما تبقى من البياتي، وما بات حاضر بقوة من سعدي يوسف وأدونيس ويوسف الصائغ، بوصفه غطاء للانخراط التعبيري في سلسلة مفتوحة من المنبهات/ الاستعارات، الباعثة على توسيع مساحات الرؤيا،, وإخضاع القصيدة الى تقانة الشكل، والعلامة، بوصفها موجهات للوظيفة التعبيرية، والتي يختلط فيها النفسي مع السياسي مع الحزبي مع العاطفي المحبط، حتى تبدو لغته الشعرية، وكأنها محكومة بهذا الهاجس، أن يسحب ذاته القلقة والملتاعة والمشغولة من الواقع الى الكتابة، وأن ينقل صوره اليومية الى بؤر مركزية تكون فيها تلك الذات هي الذات الشعرية الرائية والمتعالية، وربما هي الذات التي تفسر الوجود من حوله، بكل ما ينطوي عليه من رعب وفقر وانغلاق..
في قصائد المعاضيدي تتضح دائما تلك الاشتغالات لتجسيد ما يتداعى من المعاني/ الأصوات، والمعاني الأفكار، إذ يكثر نزوعه الى الجملة الإسمية او شبه الجملة، تلك التي تنبه الى حركته البصرية وهي تحيل الى رؤية العالم، والأفعال تلعب الدور الإسنادي الذي يحفز على ربط الحركة بحمولات الدلالة وسيولتها..
غرناطة.. بعقوبة
الشاعر...لوركا
إذا افترضنا هذه الثنائية في توصيفها الدلالي، فإننا قد نجد تشابها ما بين الشاعر اليساري المعاضيدي، والشاعر اليساري لوركا، أو بين الشاعر ذي المزاج الشعبي المعاضيدي، والشاعر ذي المزاج الغجري لوركا.. هذا التشابه الافتراضي، ولأغراض توجيه القراءة، يدخلنا الى ميدان أوسع من اللعبة الشعرية، حيث التقابلات الثنائية بين غرناطة وبعقوبة، أو بين فيثنار وخريسان.. إذ يشترك الشاعران في لعبة واحدة هي إحالة الأشياء الصغيرة- النهر، العشب، النساء، العرق المالح، النواعير- والأحلام والحكايات والصداقات الى توهجات شعرية، والى ثنائيات الحياة والموت والغياب والحضور..
لوركا يموت ضحية أحلامه وثوريته، وشراهته للحياة والمرأة والغناء، والمعاضيدي يشاطره في الحلم والثورة والشغف والتوق الى أصابع الأنثى..وهذه المشتركات الافتراضية تبيح للقارئ ان يحدس بموت الثوار الذين تلاحقهم أحلامهم رغم ما يحوطهم من رعب التوحش الذي يصنعه الطغاة دائما...
في جسدي انبجسَ النّهرُ
نوارسُ أثقلَها القُرح المائلْ
في جسدي استلقى طفلاً
مبهوراً بالفيْء النَّبضْ
العشبُ الطالعُ من صدأ
الهذيانِ المدهش في شفةِ
الأعرابِ المكتظَّةِ بالعرقِ
المالحِ ينشطرُ الأفق الراكدُ
أعشاباً
جزراً
ونواعيرَ يعاشرُها الماءُ
• شاعر عراقي أعدمه النظام السابق عام 1984
• كتاب لاندريه جيد كان يحمله المعاضيدي دائما..