وارد بدر السالم مَن كان مغترباً لأمدٍ طويل فهو لا يعرف كثيراً مزاج الشعب العراقي ، ولا يعرف شيئاً عن خصاله الإنسانية والجمالية. قد يسعفنا التاريخ القديم والحديث بإيراد مزايا مختلفة لشعب عاش وتعايش مع مختلف الظروف القاسية ؛ لكننا نبقى في الحاضر،
فهو مثال واقعي وصارخ لطريقة شعب يعيش بين الموت والانفجارات والمفخخات في أقسى استهداف ارهابي طاله عبر تاريخه القديم والحديث ؛ ومن هذه الصورة المباشرة علينا أن نكتشف أن العراقيين شعبٌ يعشق الحياة ، في مفارقة غريبة الى حد كبير نتمنى أن يدركها سياسيو هذه المرحلة ، ليصلوا ولو الى عتبة الجمال في عيون الناس وهم يتخاطرون بين الموت المباغت، حاملين مصائرهم بين أيديهم ومندفعين الى المجهول اليومي ، كي يواصلوا الحياة الحرة ولو في زحام الموت! هذه صورة مشرقة من نواحيها المختلفة. اجتماعياً وسياسياً . وهي صورة تعبّر عن كفاح شعب يريد الوصول الى حياة كريمة ، منفتحة على الإنسانية ، لا تشوبها شوائب الآخرين ولا شعاراتهم ولا دساتيرهم المفعمة بالوعود ؛ فهل هناك من هو خارج هذه المنظومة العظيمة؟ أي منظومة الجماعة المطالِبة بأن تحتوي ما تبقى من حاضرها، كي تعبر الى ضفة ثانية من الحياة بأقل الخسائر الممكنة؟ الباحث الاجتماعي يرى في شعب كالشعب العراقي إمكانيات كبيرة للوصول الى ما يريد ؛ بينما الباحث في الشأن السياسي يتوقف طويلاً قبل أن يُفتي بما يتعارض مع قانون البقاء والحياة .لكن الفتوى السياسية محكومة عادة بما يجري على أرض الواقع ، والواقع هنا مثير ومركّب ومعقد الى أبعد الحدود ، يتصارع فيه السياسي مع نفسه. ويتقدم الصفوف على حساب منظومة كبيرة دون أن يكون سانداً لها ولو بالحد الأدنى من التشريعات والامتيازات ، ولا يتماثل مع الواقع إلا بحدوده الضيقة. وحتى هذه الحدود باتت تشكل مشكلة متداخلة اعتورتها ملفات ضخمة كملفات الأمن ونفوذ الإرهاب الى مرافق حيوية وملفات الفساد الإداري وملفات الخدمات الإدارية المتردية..وغيرها.. فسحة الواقع مترامية الأطراف .والعراقيون شعب يتماهى مع الحياة بالطرق كلها لأنه يعشق الحياة ويذود عنها ؛ فعبر أربعة عقود كارثية كان فيها المواطنون تحت وطأة تعذيب سياسي شمل الجميع وغيّب الجميع وأطاح بالجميع في حلقات يومية كانت فيها الحياة تضيق وتضيق ؛ لكن العراقيين ظلوا ينهضون من رماد سنواتهم وينطلقون الى أفضية الحياة ، مهما كان الواقع ورماديته وإشكالاته وانحسار أفقه واقتضاب مفرداته.. وحتى في هذا التشكل السياسي الجديد الذي نؤشر قصوره هنا وهناك لأسباب باتت معروفة ، ظل فيه العراقيون على اختلاف مشاربهم متماثلين مع الحياة بكل فصولها الدموية ؛ فالحياة مهما صعبت وتشابكت ، ففسحة الكرامة قائمة وفسحة الأمل ينبغي أن تتسع وتتسع بمقادير ما لهذا الشعب من حب وعشق للعيش الحر، الكريم ، المثالي ، فالسياسي المتمادي في صراعاته الدائمة يبقى هامشياً بالنتيجة أمام مد جماهيري ينتزع كرامته بجدارة في كل محفل ، وكلما سنحت له الفرصة أن يعوّض الماضي الأسود والحاضر الرمادي بعشق الحياة ، والعشق هنا ليس مجازياً ؛ إنما هو فعلٌ واقعي رغم ما يحيطه من ظلمة ومظالم وظُلامات ، ولنا أن نتأمل النساء والرجال والأطفال، في الدوائر والشوارع والمدارس والأسواق والحدائق والجامعات والبيوت ، كي نتلمس إمكانيات الشعب أن يخطو خطوات جادة لتوفير مستلزمات بقائه وتأطير كرامته بالحب والعشق ، مهما تناحر السياسيون واقتتلوا وكادوا لبعضهم في أنفاق السياسة ونفاقها ومداخلها ومخارجها..لذلك نرى إن مَن اغترب وابتعد زمناً طويلاً ، لا يتجانس نسبياً مع قوة شعب يريد أن يبقى .فالعراقيون شعب صعب المراس والتدجين.
فــــارزة: شعبٌ يعشق الحياة
نشر في: 15 ديسمبر, 2009: 07:16 م