في صيف العام 1962عقد مؤتمر عالمي لأنصار السلم في موسكو ، وحضرته وفود من أنحاء العالم جميعها. و كان الوفد العراقي شاملا ويضم شخصيات كردية. أما عن الشعر و الأدب فكان أعظم شعراء العالم آنذاك يشاركون و في مقدمتهم الشاعر المناضل ناظم حكمت، وشاعر أميركا ال
في صيف العام 1962عقد مؤتمر عالمي لأنصار السلم في موسكو ، وحضرته وفود من أنحاء العالم جميعها. و كان الوفد العراقي شاملا ويضم شخصيات كردية. أما عن الشعر و الأدب فكان أعظم شعراء العالم آنذاك يشاركون و في مقدمتهم الشاعر المناضل ناظم حكمت، وشاعر أميركا اللاتينية الأعظم بابلو نيرودا، وشعراء من الجمهوريات السوفيتية.
وضمّني الأستاذ الرفيق عزيز شريف مشكوراً إلى الوفد العراقي و أتذكر بين القادمين من بغداد المناضل القديم نوري رفائيل كوتاني، و هو ممن حاربوا ضمن الفصيلة الأممية في الحرب الأهلية الإسبانية العام 1936، و من الكرد جاء الأستاذ عوني يوسف و الدكتور هاشم دوغرمة جى و زوجته السيدة سنية يوسف و ابنته الدكتورة نسرين دوغرمة جى و آخرين. و بعد إلقاء كلمات عن مجلس السلم العالمي و لجنة السلم و التضامن السوفيتي أعلن عن كلمة الشعر التي يلقيها شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، فألقى قصيدته التي نظمها للمناسبة و مطلعها:
لي طفلتان اقنص الخيالا
عبيريهما والعطر والظلالا
أثناء فترة الغداء طلب مني الجواهري الكبير الذهاب معه إلى مطعم (طاشقند) حيث الطعام الشرقي اللذيذ الذي كان يحبه و يفضله على ما يقدم لضيوف الـمؤتمر، و قد دعوت معه صديقي العتيد الشاعر عبدالوهاب البياتي و الشاعر السوري محمد الحريري. و أثناء تناول ما يسبق الطعام سألني الجواهري
- ها ... عزيّ، كيف كانت القصيدة؟
و أستغرب الجميع أن يسألني من غير الآخرين، أو يسأل أحداً عن مستوى شعره و هو القائل (نحن بناة الشعر آلهة).
فأجبته: يا أبا فرات، القصيدة رائعة جداً. و لكنها ليست بمستوى قصائد الجواهري البارزة.
- مثل إيش عزي ...
- يوم الشهيد، أتعلم أنت أم لا تعلم.
و قلت لو قال صديقي البياتي مثل هذا لقلت انه صعود و بروز في شعره. أما أن يقول الجواهري ذلك، فهذا رأيي و معذرة.
قال: أحسنت، أحسنت يا عزي. لقد كنت مدفوعاً بالجو العام، و باسم طفلتيّ أو ابنتيّ (خيال و ظلال) ثم إن القصيدة تترجم مباشرة و(هذه – الله لا يوفقها – و يقصد المترجمة الروسية هل تتمكن من ترجمة (يوم الشهيد) و غيرها مباشرة؟
و في تلك الجلسة بدأ الجواهري يمزح مع (حسين مردان) كعادته، و كان حسين يقول: أنا أكثر شاعرية منك، أنا أخرجت من القاموس (يقصد المعجم) مائة كلمة سأستعملها في أشعاري القادمة. فسأله الجواهري: مثل ماذا؟ قال حسين مردان مثل (القارعة). قال الجواهري: أنا عنونت مقدمة ديواني القديم، (على قارعة الطريق). فردّ عليه حسين: أنا ما طول ما تفتهم، أنا لا أقصد (قارعة الطريق) بل أقصد القارعة ما القارعة؟) .. و كان هذا النقاش الذي كان الجواهري يرتاح منه. و ضمن الكلام قال حسين: أنا لا أملك شيئاً و أنا أستدين، و أعيش منذ خمسة و عشرين عاماً على الدَّين (أي القرض) فسأله الجواهري: طيب هؤلاء الذين تستدين منهم ألا يطالبونك بتأدية الدَين؟ ضحك حسين و قال: لا، عندما أراهم يهربون مني خوفاً من أن أطلب قرضاً جديداً. ضحك الجواهري ضحكاً عالياً و قال: و لك بهذا غلبتني. أنا أيضاً كثير الاقتراض و لكنني عندما أرى الدائنين أتهرب منهم كي لا يطلبوا إعادة الدين. (ولك غلبتني)..
في تلك السفرة دعي بعض الضيوف إلى لينينغراد، فمرّ الجواهري إلى مقصورته جنب مقصورة نوري رفائيل الذي رتب له بعض أقاربه المقيمين في موسكو سفرة مع المشروبات و المأكولات قبل إقلاع القاطرة، فناداه السيد نوري رفائيل في أشبه من اضطرار (تفضل أستاذ). انزعج الجواهري، إذ لم يره جاداً في دعوته و مجاملته. فكان يعلق بعد عودتهما من لينينغراد قائلاً: و هذا شوفوه كلما عنده من المآثر هو اشتراكه في يوم ما في (حرب داحس و الغبراء). و يقصد ما قيل عن اشتراكه في الحرب الأهلية الإسبانية.
و كان معهم في تلك السفرة الشاعر السوري محمد الحريري، و أرى هنا فرصة لأروي بعض الطرائف التي أتذكرها عنه. ألقى مرة في دمشق قصيدة طريفة من أكثر أبياتها طرافة (و أما المراوغ البرجوازي):
لصّ منها النعمى فعم الفساد
و فعل (لصّ) عنده أو من نحته كما أظن فمعناه (سرق) و كان يردد في تلك الجلسة: يا أبا فرات، لقد قلت لي ذات مرة: (يا محمد أن لك أبيات جميلة أحياناً)و هذا هو وسام لي يا أبا فرات.
أنظر كيف يعتز بـ (أبيات جميلة و ليس قصائد). و حقا هذا وسام عندما ينطق به أبو فرات.
كان محمد الحريري يعتز بأخيه الضابط زياد الحريري و يقول: شو زعيم حلو صاير زياد يا أبا فرات، عم يعمل انقلاب و راح نعيش كلنا في كنفه. حقاً اشترك زياد في الانقلاب السوري و أعطي منصباً عسكرياً كبيراً، و لكن أحداً ممن عناهم شقيقه الرائع محمد لم يعش في كنفه بل سمعنا عن اعتقاله، و كان الكاتب السوري الكبير الساخر مواهب الكيالي (أبو الطيب) يعلق: راح يقتلوه. نسأل لماذا. فيجيب ساخراً: شو هو بهل سمنة و القامة العالية و الأكل الكثير يفلسهم، أما قتله فتكلفهم رصاصة واحدة.
تعددت تلك الجلسات في حضرة الجواهري. و كان الجواهري الكبير يفضل شرب الفودكا الروسية و كان هذا دأبه في براغ أيضاً. أما محمد الحريري فكان يسايره و لا يتعلم اسم (الفودكا) و يقول لي: دخلك واحد آخر من هذا (الأبيض). و الجواهري يعلق: (عزي ... جيب له، و لكن دير بالك لا يصير قحط فودكا في موسكو).
كان الجواهري العظيم ينزعج في تلك الزيارة من المطر في موسكو. و كان عندي (مشمع) خاص للمطر، أعطيته إياه. فكان الأستاذ عزيز شريف يسألني كل يوم: الشاعر الأكبر أعاد لك المشمع؟ فأقول: أعتبره هدية مني إليه يا أبا عصام، فيقول: لا ... لا أنت طالب تعيش على شهرية محددة، و لكنه يملك ما يمكنه من شراء كل شيء.
كنت أزور براغ عدة مرات في السنة طيلة بقائي في الاتحاد السوفيتي، فكنت أحلّ ضيفاً على صديقي الودود الدكتور عبدالرحمن قاسملو (الشهيد) ، أو في دار الجواهري. و كانا في منطقة واحدة (تاثيتريناخ) و أتذكر رقم دار الشهيد قاسملو إذا كان يحمل رقم (8).
ذات مرة أرسلت بعمل حزبي من موسكو إلى براغ، استقبلني في المطار شخص جيكي قدم نفسه بالرفيق – برافدا- و لا أدري هل هذا اسمه الحقيقي، أو مستعار. و قال: أرسلني الرفيق عزيز الحاج لاستقبالك. و برافدا تعني بالروسية الحقيقة، و هي اسم جريدة الحزب الشيوعي السوفيتي - لحد الآن- و أسسها لينين. و قد يكون الاسم هو نفسه في الجيكية(وهي لغة سلافية)أخذني برافدا إلى فندق كنت قد ذهبت لزيارة أحد الرفاق مع الشهيد قاسملو إليه، لم يكن الفندق يحمل لافتة.
سألني الجواهري: أين نزلت؟ رحمن (و يقصد قاسملو) ليس هنا هذه الأيام، و لم تأت لتنزل هنا (أي بيته)، قلت له: أنا في فندق، فصاح بعصبية: تنزل في فندق و دارك هنا، قلت: معذرة أبا فرات فقد جئت بعمل و أنزلني الرفاق الجيك في فندق. فسألني: أي فندق هذا؟ قلت: تتجه من مطعم باريس حيث نجلس معاً إلى الزقاق المقابل و الفندق يقع قريباً إلى اليمين. عرف الجواهري أنه فندق لضيوف اللجنة المركزية و لا يحمل لافتة أو إشارة إلا أنه فندق. فهز رأسه و قال: ولك أنت نازل هناك؟ نعم كل الناس يكبرون بس مهدي الجواهري يظل صغيراً. فقلت: أنت أكبر الكبار يا أبا فرات و أعظم الناس و أنا جزء صغير من *عظمتك*.
كان الأخ ياسين رؤوف (ملا ياسين). يعمل (أميناً للسر) عند الأخ مام جلال في قلاجولان، و قبل طالباً للماجستير في قسم اللغة العربية في جامعة السليمانية. اقترح الأخ مام جلال أن يكتب أطروحته عن الجواهري و قال لي: أرى أن تكون أنت المشرف على الأطروحة، فقلت له: يا مام جلال أشترط أن تساعده أو تساعدني بنفسك فأنت أعرف مني بالجواهري من الجوانب كلها، فأجابني بتواضعه الجمّ المعروف به: أنا أحفظ للجواهري أكثر منك، و لكنك أعلم مني به. بدت عليّ علائم الخجل فصار يهدئ من روعي، فقبلت و كتب الأخ ملا ياسين واحدة من الأطروحات (أو الأطاريح كما يقال اليوم) الجيدة، و نال درجة امتياز بها، و لكن انشغاله بالأعمال الحزبية، و تنسيبه للعمل في مكتب الاتحاد الوطني الكردستاني في القاهرة، عزله عن العمل العلمي، و أتمنى من أعماق قلبي أن يعود إلى ذلك، و يكتب أطروحة أخرى عن الجواهري بالذات.