يشعر قارئ النص بشيء من الأنس والنشوة وهو ينظر إلى جمالية الخط الذي يتضمنه معنى النص الذي بين يديه.والخط ذاته يجذب القارئ إلى القراءة ، ولذلك ، فإن قراءة النصوص وخاصة الإبداعية تكون أكثـر دلالة عندما نقرأها من خط يد الكاتب .
لنتذكر الرسائل ال
يشعر قارئ النص بشيء من الأنس والنشوة وهو ينظر إلى جمالية الخط الذي يتضمنه معنى النص الذي بين يديه.
والخط ذاته يجذب القارئ إلى القراءة ، ولذلك ، فإن قراءة النصوص وخاصة الإبداعية تكون أكثـر دلالة عندما نقرأها من خط يد الكاتب .
لنتذكر الرسائل التي كانت تصلنا بريديا وكنا نقرأها ، ونقارن ذلك بما يصلنا اليوم بمئات الرسائل يوميا سواء من خلال بريدنا الالكتروني ، أو بعض المواقع الاجتماعية .
لنتذكر لهفة انتظار الرسالة من البريد ، متعة وفنية فض الغلاف ، التمتع بإمساك الصفحة ، شمّ رائحة المرسل من الصفحة المكتوبة بخط يده .
لذلك كله يمكن القول بأن القراءة الورقية تبقى هي الأصل في نهل الثقافة ، بل في قراءة أي عمل أدبي هام .
الخط بصفة عامة هو لغة بيانية جمالية يعبر عن سمات شخصية كاتبها ، وكما أن الخط هو لغة للتعبير عن الألفاظ ، وتفجير لدفق المشاعر الإنسانية ، فإنه كذلك يعبر عن كاتبه ، ولذلك يلجأ البعض إلى قراءة الخط ، والخط هو كالبصمة إذ لكل شخص خطه المميز عن الآخر ، هذا الخط الذي يكون دليلاً إلى كاتبه .
لذلك عني الخط بصفة عامة بالاهتمام سواء من خلال علماء التحليل النفسي ، أو من خلال رموز الفن التشكيلي ، أو من خلال علماء اللغة والألسنيات .
إن خط الكاتب بيده يشكل جمالية وخاصية بالنسبة للمتلقي ، ولذلك نرى أن المخطوطات التي كتبها مؤلفوها تتمتع بقيمة فنية وأدبية ومادية ثمينة .
القارئ هنا يقرأ بشكل مباشر أفكار الكاتب بخط يده ، وهذا يجعله أكثر تذوقاً للأفكار ، وأكثر استيعاباً لِما يكتنفه المسرود اللغوي .
الخط هنا يشبه اللوحة التشكيلية ، ويشبه الصورة الفوتوغرافية ، فهو الدليل والرشيد إلى قراءة شخصية صاحبه .
هذا يتيح لك أن تستمتع بقراءة وتذوّق جمالية الخط فحسب، كما لو أنك تستمتع بتذوّق لوحة تشكيلية . علينا هنا أن نميز كثيرا في عملية الفصل هذه ، فصل المعنى اللغوي عن مبناه ، عندذاك سوف نتمكن من تذوّق جمالية الخط ، ونستطيع أن نتحدث عن عالم الخط ونحن نلج محرابه.
استطاعت اللغة العربية أن تقدم ألواناً وأشكالاً جمالية وفنية وذوقية وبلاغية هامة في مجال استخدام الخط .
الخط الكوفي يتمتع بخصائص مميزة ، إلى جانب الخط الموزون ، والخط المنسوب ، والمدرسة العثمانية ، إلى جانب المذاهب والتيارات والمدارس الحديثة .
من هنا اغتنى الخط بألوان وأشكال الفنون المعبرة عنه ، ولعل اللغة العربية تتميز بهذا الغنى في ألوان وأشكال وفنون وجماليات وبلاغة الخط .
إذا دخلنا عالم الخط المنسوب ، فنرى تحوّل وتطور الخط من خلال نمطي المنحني الطياش ، والهندسي .
كانت الخطوط الموزونة قد وصلت إلى درجة من التطور، فأصبحت لها نسب قياسية خاصة، وبلغ عدد أقلامها أربعة وعشرين قلمًا عندما ظهر الخطاطان العبقريان الوزير أبو علي محمد بن مُقْلة ثم أخوه أبوعبدالله الحسن بن مقلة اوقد نقلا الخط العربي نقلة فنية نوعيةحيث بلغا في بدايات القرن الرابع الهجري إلى تأليف ستة أنواع من الخطوط هي: الثلث ، والريحان ، والتوقيع ، والمحقَّق ، والبديع ، والرقاع. ثم قدما فنوناً في مقاييس ومزايا اللغة ، ووضع معايير لضبطها والوصول بها إلى صيغ جمالية محكمة بالاعتماد في ذلك على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط. فجعلا حرف الألف الذي حدد طوله بعدد من النقاط قطرًا لدائرة ونسبا إليه الحروف جميعًا، فكانت هذه انطلاقة الخط المنسوب الذي أبدع فيه عدد من الخطاطين طوال قرن من الزمن ليصل إلى محمد بن السمسماني ، ومحمد بن أسد الكاتب البزاز البغدادي الذي نقل كتابًا عن ابن مقلة، وقد تتلمذ عليهما الخطاط البغدادي المبدع أبو الحسن علي بن هلال، ابن البواب .
درس ابن البواب خطوط ابن مقلة دراسةً معمقة مدققة استطاع بعدها أن يطور أسلوبه والقواعد التي وضعها للخط المنسوب منتقلاً به إلى مرحلة أكثر رقيًا وجمالاً عبر اصطفائه لأساليب تجمعها خصائص جمالية مشتركة؛ نقّحها وحوّلها إلى طرق سار عليها هذا اللون من الخط قرونًا ثلاثة تالية، لتنتهي إلى زينب بنت أحمد الإبري البغدادي الملقبة بشُهدة، التي يقال: إن ياقوت المستعصمي تتلمذ عليها، ثم الموسيقي الشهير الخطاط صفي الدين عبدالمؤمن الأرموي أستاذ أبي المجد جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي .
تحول الخط العربي إلى شكل من أشكال الفنون ، وأصبح علامة مميزة تعبر عن الأحقاب الزمنية ، وهو يتمتع بمنزلة رفيعة إلى جانب ما أتى به الإنسان من ألوان الآداب والفنون .
إن قراءة الخط تتمتع بخصائص مختلفة عن قراءة اللغة ، إنها شبيهة بقراءة الكف ، وقراءة البصمة ، وقراءة نظرات العين ، قراءة قسمات الوجه ، قراءة نبرات الصوت ، قراءة تفرعات الضحك ، قراءة ألوان الرقص .
هنا سوف يكون بمقدورنا أن نتعرف على شخصية الخطاط أيضاً من خلال خطه ، أن نحلل شخصيته من خلال تحليل خطه ، ولذلك نرى القيمة المادية والمعنوية للمخطوطات الأدبية والفكرية التي خطها مبدعوها بخطوطهم ، فنحن هنا نقرأ الخط ، بعد أن قرأنا اللغة ، سيكون بإمكاننا أن نتمعن كثيرا في تلك الكلمات التي كتبت في أوقات مختلفة.