TOP

جريدة المدى > عام > فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الثاني عشر

فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الثاني عشر

نشر في: 27 يناير, 2015: 09:01 م

بعد نشر اللامنتمي بدت الأمور لي رائعة تماماً : شهرة مدوّية بين ليلة و ضحاها ، مال ، لقاءات تلفزيونيّة بصحبة المشاهير ، حفلات أدبيّة ، دعوات لإلقاء محاضرات عامّة في المدارس العامّة و الجامعات ،،،، و لكن سرعان ما وجدْتُ الأمر مربكاً و رتيباً باعثاً على

بعد نشر اللامنتمي بدت الأمور لي رائعة تماماً : شهرة مدوّية بين ليلة و ضحاها ، مال ، لقاءات تلفزيونيّة بصحبة المشاهير ، حفلات أدبيّة ، دعوات لإلقاء محاضرات عامّة في المدارس العامّة و الجامعات ،،،، و لكن سرعان ما وجدْتُ الأمر مربكاً و رتيباً باعثاً على الملل بعد أن اكتشفْتُ أنّ كلّ تلك الأمور بدت و كأنّها لم تكن لمناقشة أفكاري الّتي احتواها كتابي بل لمحضِ أغراض تجاريّة و تسويقيّة ، و كانت المشكلة الباعثة على ضجري جليّة للغاية : كنتُ في سنوات يفاعتي و مراهقتي المبكّرة قد قضيْتُ معظم أوقاتي مع الكتب و هي الحالة الّتي تسبّبَتْ في ولعي العظيم بروح الرومانتيكية و آبائها المبجّلين : غوته ، بليك ، شيللي ، هوفمان و آخرين من عصبة الشعراء الّذين أسماهم ييتس ( جيل المأساة ) و هم - بالإضافة إلى ييتس نفسه بالطبع – إيرنست داوسون ، ليونيل جونسون ، و جيمس ثومسون .

كانت نقطة الشروع الّتي دفعتْني لكتابة ( اللامنتمي ) نابعةً من تساؤلي : لماذا قضى معظم عباقرة القرن التاسع عشر انتحاراً مثل ثوماس لوفيل بيدوس Thomas Lovell Beddoes و فان كوخ ، أو انتهوا في مصحّات عقليّة مثل هولدرلين و نيتشه ؟ كان الجوابُ الذي اقترحْتهُ في اللامنتمي يتمحور حول كون هؤلاء العباقرة قد أوغلوا بعيداً في الذاتيّة و الرومانتيكيّة فوجدوا أنفسهم عاجزين عن التناغم مع المشكلات العاديّة للحياة البشريّة اليوميّة و كانتْ ردّة فعلهم إزاء هذا العجز هو أنّهم أداروا ظهورهم تجاه هذه الحياة و كرّسوا حياتهم في محاولة الوصول إلى ما كانوا يصفونه " التوق الأبديّ " ، و لكن ، و للأسف ، لم يكن الهروب من ساحة الحياة اليوميّة يمثّلُ حلّاً منطقيّاً و معقولاً : فإذا كان هؤلاء العباقرة جادّين في سعيهم نحو شكلٍ مكثّف و مستحدثٍ من الوعي فهل كانت ثمّة فائدةٌ متوقّعة أو خيرٌ يرتجى من وراء صبّ اللوم على الحظّ العاثر و من ثمّ الغرق في لجّة اليأس و الهزيمة ؟ . كنتُ اختبرْتُ انا ذاتي أمثال هذه المشكلات ، فعندما كنتُ في السادسة عشرة من عمري كنتُ تشبّعْتُ حتّى قمّة رأسي بمذهب الرومانتيكيّة و كنتُ لا أملّ من ترديد كلمات ييتس :
..... ما ترنو إليه ملايين الشفاه في هذا العالم
لا بدّ أن يكون أمراً جوهريّاً في مكانٍ ما .....
و ما دفعني إلى محاولة قتل نفسي بالسيانيد من قبلُ كان بسبب قناعتي المؤكّدة أنّ الحياة الواقعيّة بكل عاديّتها الرتيبة ستكبح جموحي في بلوغ " التوق الأبدي " الّذي حكى عنه الرومانتيكيّون ، و لكن في اللحظة الّتي قاربَتْ فيها أنبوبة السمّ شفاهي أدركْتُ أنّ قتل نفسي كان حلّاً في منتهى السخف و أيقنتُ أنّني أنا و ليس غيري من يتسبّبُ في إحداث المشاكل لنفسي بالسماح لها أن تقبل بالتخاذل و الهزيمة ، و عندها اختبرْتُ على نحوٍ مفاجئ ما سبق لبروست أن اختبره و وصفه بقوله " لم أعُدْ أشعر بأنّني أمرؤ عاديّ أو محدود جاء بمحض صدفة عمياء و كُتِب له الفناء ،،،،، " .
إنّ كوني مؤلِّف الكتاب الّذي صار وقتها الأكثر مبيعاً في العالم كان بالتأكيد مبعث نشوة عميقة لي أوّل الأمر و كان أفضل بكثير من عملي في مصنع الصوف ، و لكن سرعان ما شعرْتُ بانعدام الراحة ذاتهِ الّذي لطالما شعرْتُ به من قبلُ ، و بدلاً من شعوري بالرضا و الاكتفاء الذاتي تحوّلتْ حياتي إلى مادّة محبّبة للنميمة الرائجة في الأعمدة الصحفيّة . حصل بعد نشر اللامنتمي أن حاضرْتُ بكثافة كبيرة و كانت واحدةً من أولى محاضراتي هي تلك الّتي انعقدت في معهد الفنون المعاصرة في البيكاديللي و كان من بواعث سروري أن أقدّم زوجتي جوي إلى ( ستيفن سبندر ) الّذي سبق لها أن رأتْه آخر مرّة في محاضرة سابقة له في الجمعيّة الأدبيّة في كلّية ترينيتي Trinity ( الروح القدس ) في جامعة كامبردج ، و كان من المثير للغاية الالتقاء بشخصيّات أدبيّة و ثقافيّة كنت قد قرأتُ لهم من قبلُ : ستيفن سبندر ، كريستوفر إيشروود ، إديث سيتويل ، هربرت ريد ، لويس ماكنيس ،،، و كذلك برسّامين من أمثال : فرانسيس بيكون ، لوسيان فرويد ، و إل. إس. لوري ،،، و سرعان ما شعرْتُ بالاكتفاء من هذه الحفلات الأدبيّة .
لم تكن شهرتي المفاجئة الّتي هبطت عليّ من غير انتظار لتخلو من بعض المفاجآت المثيرة : وصلتْني يوماً ما نسخةٌ من سيرة ذاتيّة بعنوان ( غروشو Groucho ) لمؤلّفها غروشو ماركس ، و لمّا كنتُ أعلم أنّ ماركس هذا لم يكن بالرجل الّذي يتجشّم عناء إرسال كتبه إلى أيّ أحد لذا كاتبْتُ ناشري ( غولانز ) متسائلاً عن السبب وراء إرساله لي هذه النسخة فأجابني أنّه بعد أن نشر السيرة الذاتيّة لغروشو كتب إلى مؤلّفها - جرياً على التقاليد المتّبعة في دور النشر – لمعرفة أسماء الشخصيّات الّتي يودّ المؤلّف لو أنّ الناشر أرسل لهم نسخاً مجّانيّة فأجابه غروشو " وينستون تشرشل ، سومرست موم ، كولن ويلسون " !! ، و هكذا كتبْتُ رسالة إلى غروشو أشكره فيها على إهدائي نسخة من سيرته الذاتيّة و أخبره أنّني في صدد التحضير لكتابة رواية عن جاك السفّاح ، و ردّ الرجل برسالة تطفح حيويّة قال في مقطع منها " لطالما كان جاك السفّاح بطلي المثاليّ الّذي أتطلّعُ إليْه و للأسف فإنّ قدراتي الجسديّة المحدودة هي وحدها ما منعتْني من ترسّم خطاه و السير على دربه ،،،، !! " . قابلتُ مرّة في أروقة الجمعيّة الملكيّة الكاتب المسرحيّ صامويل بيكيت و استبدّ بي إغراء محاججته حول شعوره بأنّ الحياة عديمة المعنى بالكامل و لكنّي وجدت في شخصيّته الودودة غير العدوانيّة مصدّاً أمام الإغراء الّذي اعتراني ، و لكن حصل لاحقاً و حاججْتُ فعلاً كاتباً مسرحيّاً آخر هو يوجين يونسكو حول ثيمة فقدان المعنى في الحياة و الّتي تسِمُ كلّ أعماله ولازلت أذكرهُ و هو يومئُ إلى المطر المنهمر بغزارة عبر النافذة قائلاً لي " أنظرْ إلى المطر و هو يهطل بغزارة . هل ترى ثمّة معنىً وراء هذا ؟ " .
كانت واحدةً من المشكلات الّتي عانيتُها بعد نشر ( اللامنتمي ) هي الجماهيريّة التافهة الّتي حظيتُ بها رغماُ عنّي : ففي مساء أحد الأيّام كنتُ أنا و جوي نحضرُ حفلاً أقامتْه دار نشر فابر و فابر Faber & Faber و لبّيْنا الدعوة على أمل الالتقاء بِـإليوت ، و لكن للأسف لم يظهر إليوت في الحفل و قابلْنا عوضاً عنه وليم غولدنغ ، و لوري لي ، و حصل في طريقِ عودتنا إلى المنزل أن مررْنا بمسرحٍ تتجمهرُ الحشود حوله و عندها طلبنا من السائق التمهّل و السؤال عمّا يجري فقيل لنا أنّ هذه هي ليلة العرض الأولى لمسرحيّة آرثر ميللر ( منظرٌ من الجسر A View from the Bridge ) و كانت الحشود المكتظّة حول المسرح تطمحُ في اقتناص لمحةٍ لمارلين مونرو ، و بعد أن لمحْتُ اسم أنتوني كويل Anthony Quayle على الملصقات الجداريّة ( و كنتُ التقيْته في حفلاتٍ سابقة ) وجدْتُ في نفسي شجاعةً للاقتراب من باب المسرح و المرور بين صفّيْن من رجال الشرطة ، و عندما بلغْتُ الباب سألت البوّاب " أين أجدُ غرفة تبديل الملابس للسيّد كويل ؟ " فجاءني الجوابُ على الفور " الغرفة رقم واحد ، الممرّ الأوّل من اليسار تحت الممشى الرئيسيّ " ، و عندما بلغْنا الغرفة وجدناها مكتظّة بالبشر و استطعْنا تمييز لورنس أوليفييه و فيفيان لي و العديد من المشاهير الآخرين بضمنهم مارلين مونرو الّتي كانت واقفةً لوحدها أمام مرآةٍ و هي تحاوِلُ إحكام شدّ فستانها الضيّق عاري الكتف و الصدر strapless حول جسدها ، و لمّا رأيتُها وحيدة تقدّمْتُ منها و قدّمْتُ نفسي بجرأة - و كنت قرأتُ عنها من قبلُ أنّها قارئة نهمة – ثمّ قدّمْتُ لها جوي زوجتي و بعدها ذهبنا للبحث عن أنتوني كويل فوجدناه و قدّمَنا هو بدوره إلى كلّ من فيفيان لي و لورنس أوليفييه و عندما سألْتُ أوليفييه عن صحّة الخبر الّذي يقول أنّ جون أوزبورن كان يكتبُ مسرحيّةً معدّة له أجاب بالإيجاب و طلب إليّ أنا الآخر كتابة مسرحيّةٍ له . كانت فيفيان لي تبدو ثملةً قليلاً و تُبدي نظراتٍ متغزّلة بمن حولها و عندما وجدْتُني وحيداً معها شعرْتُ بالحرج للطريقة الّتي كانت تحدّقُ بها في عينيّ و عندها تشجّعْتُ فأخبرتها كم كنتُ معجباُ بأدائها لدور كليوباترا في مسرحيّة شكسبير المعروفة و الّتي كنتُ شاهدْتُها مؤخّراً فَأجابتْني " تعال لاحقاً لتراني و سنتكلّم طويلاً عن المسرحيّة " ، و اكتشفْتُ بعد وقتٍ طويل أنّها كانت في هذا الطور من حياتها بالتحديد قد بدأتْ بإظهار علامات الإدمان الكحوليّ و الشبق الجنسيّ العنيف حتّى أنّها كانت تنامُ احياناً مع سائقي سيّارات الأجرة الذين يقلّونها !! . لم أعد اليوم أذكرُ من تلك الليلة شيئاً آخر باستثناء أنّ أحد كتّاب الأعمدة الصحفيّة الّتي تبغي الإثارة سألني ما الّذي كنتُ أفعله هناك فأجبْتهُ ببساطة أنّني حضرْتُ حفلةً و كنتُ أرجو رؤية إليوت فانتهيْتُ إلى رؤية مارلين مونرو ، و في اليوم الثاني ظهر هذا الخبر في أحد الأعمدة الصحفيّة مع تعليقٍ يقول أنّني أعتزِمُ كتابة مسرحيّة معدّة إلى أوليفييه ، و ربّما كان هذا النوع من الجماهيريّة الرخيصة المسفوحة على أعمدة الصحف الفضائحيّة الّتي تبغي الإثارة و التهويل هو ما يساعد في تفهّم موقف النقّاد منّي - و بخاصّة سيريل كونوللي ، و فيليب توينبي – الذين رأوا أنّني كنتُ أسرِفُ في خسارة مواهبي الثمينة ككاتبٍ جادّ ذي أصالة واعدةٍ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram