خرجت (المابعد حداثية) من رحم الحرب العالمية الثانية ولتصل الى ذروتها في اوائل الثمانينات من القرن الماضي وكانت ومازالت مصطلحاً زئبقياً لايمكن الإمساك به وتحليل ملامحه بوضوح، وهي كسابقها (الحداثية) ثورة ضد جميع المفاهيم والنظريات السابقة بل انها راحت تقف بنفسها ضد نفسها، ومع ما ذكر عن ظهورها وذروتها فهناك استحالة في تحديد زمنها وعلي القول انها نشأت نتيجة الاضطراب الفكري والضياع الذي مر به الانسان منذ أواسط القرن الماضي حيث راحت تتضارب النظريات النفسية والاجتماعية والحركات السياسية والصراع بين الاحزاب الشيوعية واليسارية من جهة والأحزاب المحافظة واليمينية من جهة اخرى. وما ان تنامت الحركة الاشتراكية في معظم أنحاء العالم وطبقت أنظمتها في بلدان كثيرة بقيادة الأحزاب الشيوعية والسرعة التي انهارت بها الأنظمة الاشتراكية وصعود التيارات الدينية وماحصل من تقدم في التكنولوجيا وما ساد من فوضى في النظم الاقتصادية، كان لابد من ان ينعكس مثل ذلك التشويش الفكري في تنظيرات (مابعد الحداثية) وفلسفة اصحابها حيث العدمية والفوضوية وعدم تحكيم العقل والذاتية واتصفت تقنياتها في الأدب والفن بالتفكيكية والتشظي وخلط الأساليب والتسطيح وعدم الالتزام بالكلمة المنطوقة واستبدالها بلغة بصرية وحركية وإلغاء ماسمي بالمسافة الجمالية وإحلال المشاركة الفعلية للمتلقي بالعمل الفني والمحاكاة الساخرة (البارودي).
يقدم (ايهاب حسن) وهو أستاذ النقد في احدى الجامعات الأميركية، وفي مقالة له بعنوان (قضية مابعد الحداثية) نشرت عام 1980 خمس أفكار عن الأدب واللغة والثقافة من منظور مابعد الحداثية! أولاها، تجاوزت الصيغة الانسانية في عالمنا الحاضر الذي تتصارع فيه قوى الرعب والمذاهب الشمولية والتفتت والتوحد والفقر والسلطة! ثانيها، التبشير بظاهرة العولمة من حيث وحدة الكرة الأرضية واتحاد الفرد مع الجميع ولظاهرة اتساع الوعي مع التفجر التكنولوجي! ثالثها، إيجاد لغة بديلة عن اللغة المنطوقة، لغة ليست مجرد وسيلة للاتصال. رابعها، ايجاد نمط جديد من التقاء الفن بالمجتمع حيث تتميز مابعد الحداثية عن الحركات الطليعية السابقة مثل المستقبلية و الدادائية والسوريالية. خامسها، التطلع الى الأشكال المفتوحة والمتفائلة والطموحة والمتحررة من أية قيود.
وهكذا تسود ظاهرة التشظي في الخطاب الأدبي او الفني وايديولوجيا التصدع التي تقود الى التحلل واستنطاق الصمت، وفي المابعد حداثية تسود "فكرة استحالة التحديد والتشرذم والتشظي ونقص الأعمال الأدبية التقنية واللاعمق واللاتمثيلي واللاتقديمي والمفارقة والتهجين والاحتفالية والأداء واللامفارقة، وواضح جداً عامل التناقض في جميع تلك الأفكار كما واضح جداً التشويش والفوضى، وربما يعزوها البعض من أصحاب مابعد الحداثية الى الفوضى الخلاقة، وهكذا في الختام تؤكد الأفكار المتناقضة السابقة صفة الزئبقية والهلامية في تيار مابعد الحداثية.
وفي الحقل المسرحي لنستذكر اولئك الذين ينتمون الى تيار مابعد الحداثية، انهم مجموعة من المخرجين المخضرمين الذين تراكمت تجاربهم الفنية وراحوا يمارسون تجارب جديدة يعتقدون انها تناسب متطلبات العصر وتستجيب لمعطياته، انهم (روبرت ويلسون) و (ريجار فورمان) و (بيتر بروك) و (جوان اكالاتيس) و(ايريان مينوشكين) و (بيتر سيلارز) ومن حق هؤلاء وغيرهم من اصحاب الخبرة المتراكمة ان يجربوا أساليب جديدة في الانتاج المسرحي . وقد لاحظ الدارسون والنقاد ان مخرجي مسرح مابعد الحداثة قد اهتموا بالسميوطيقا وتركيب أعمالهم وعناصر انتاج المسرحية على وفق (الدال والمدلول) وتقنيات تقود الى تعدد المعاني والى التأويل والتخمين والحدس، ولذلك يصبح من الصعب تحليل أعمالهم المسرحية على وفق المعايير النقدية المألوفة.
إشكالية الحداثة وما بعد الحداثة! - 2
[post-views]
نشر في: 2 فبراير, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...