الرسالة الاولى الخطبة 5 ربيع الثاني سنة 1340هـ اخي عوني: كثرة اختلافي اليك، وترددي عليك، واجتماعي بك حينا بعد حين في الايام الماضية، كل ذلك كان يمهد لي السبيل لان احكي لك ما اشاهد وارى ما يعرض امام عيني على ستائر سما الحياة الكبيرة، ومن المناظر الحسنة البشعة المضحكة المبكية،
وابسط لديك ميمر على مخيلتي في الساعة بعد الساعة من الحقائق الراهنة او الخيالات والاوهام، واضع بين يديك ما عندي من الاراء المتطرفة، والافكار الشاذة. وقد كنت تتلقى ذلك مني برغبة واشتياق اولا، حتى اذا ما افرغ منها تبدأ بتمحيصها باعتناء تام ثم تستحسن منها ما تستحسن وتستهجن منها ما تستهجن، وهكذا كنا نتبادل الاراء والافكار ونتناظر ونتحاور حتى نطرق كل باب ونهيم في كل واد. اما الان وقد بعدت عني، وحالت بيني وبينك الحوائل، فلا حيلة لنا لاعادة الكرة غير المكاتبة والمراسلة. ليس عندي شيء يستحق الذكر، سوى اني اورد لك حادثة شاهدتها ومازلت حتى هذه الساعة أفكر بها. انها مسألة ربما كانت تافهة بنظر الناس، ولكن ذلك لايهمني ابدا. ارجوك ان تقرأها بامعان ثم تكتب لي عما ترتئيه ولو ببضعة اسطر. دخلت امس المسجد الكبير فرأيت الخطيب واقفا على منبره يخطب بالناس قائلا: كونوا ذوي اخلاق فاضلة. فالفضائل وحدها السبب المؤدي الى السعادة في الدار الدنيا. كونوا صادقين. فقد قيل ان الصدق سيد الاخلاق وابو الفضائل. اقول (الصدق) واعني به الصدق في القول والعمل، في السراء والضراء في كل حال من الاحوال. كونوا ابطالا شجعانا. فالشجاعة والاقدام هما عماد الاخلاق واساس النجاح في الاعمال. الرجل الشجاع هو الذي يقدم على الامور بقلب باقوى من الفولاذ واذا ما اصابه حادث خطير يقف له رابط الجأش، ساكن القلب، قوي الجنان، حاضر اللب، لاتأخذه دهشة ولاتخالطه حيرة او رهبة، والرجل الجبان بعكس ذلك: شتان مابين الاثنين، ذاك يفوز بالمعالي وهذا يبقى في الحضيض الاسفل. كونوا ذوي عزم وارادة. فالشجاعة وحدها لاتكفي مالم تكن مصحوبة بالارادة التامة. كونوا متواضعين لامتكبرين. فالتواضع لايزيد الرجل الا رفعة في اعين العالم، وان الناس ليمقتون من تكبر او رفع نفسه فوق قدرها. ليكن الفرد العاقل، لين الجانب سهل العريكة، مخفوض الجناح، متواضعا لطيفا فمن كان بعكس ذلك اهمله الاقربون وانفض من حوله الابعدون.. اكمل الخطيب خطابته ثم نزل وخرج، اما الناس فتفرقوا وذهب كل منهم الى شأنه وقد اكتفوا من تلك التعاليم بسماعها فقط. وقفت هنيهة ثم تحسست وقلت: ايها الفيلسوف ! انت بواد والناس بواد. انهم ماكانوا ولما يكونوا ذوي اخلاق فاضلة ولاصادقين ولاذوي شجاعة او عزم وارادة ولامتواضعين ابدا، لكنهم يعيشون.. والشذوذ النادرون، الذين هم لمقالك تابعون، ارنيهم، اين هم- في الدرك الاسفل، من نادر الحياة. اجل تلك هي نظريات، ولكنها عقيمة لايعمل بها والناس يعرفون ذلك بيد انهم يخدعون انفسهم بها. ويكفي، نعم ويكفي، انها تحفظ في صدور الفلاسفة او بين دفات الكتب وطيات القراطيس. اخبرني ايها الصديق الصادق هذا خطأ أم صواب؟. س. م الرسالة الثانية المجتمع والكتاب 7 ربيع الثاني سنة 1340 اخي محمود: بالامس حظيت برسالتك التي ارسلتها الي، ولقد سرني منها حريتك في كلامك، وصراحتك بما يخالج ضميرك وعدم اتباعك الطريقة التي سار ومايزال يسير عليها بعض الكتاب عندنا فينمقون العبارات تنميقا ويزوقون الكلام تزويقا، فيأتون بآراء لايقبل بها وجدانهم، ولاترضاها ضمائرهم. اولئك على فريقين: فريق اغرته الدنيا بزخرفها وادهشه الاصفر الرنان بصولته فوهب كلما عزله في حياته في سبيل الحصول على امنيته، فهو معذور فيما يكتب وغير مسؤول عما يقول، لانه طوع ارادة ارباب المال واسير احسانهم. وفريق اضلته الخرافات، وحالت بينه وبين الحقائق الاباطيل، فهو لايريد ان يكتب الاّ ما يكون موافقا لمشارب ابناء القرن الاول للهجرة، كأنه نسي انه من ابناء القرن الرابع عشر، ذلك القرن الذي امتاز بتقدم اهله وتطور احوالهم الاجتماعية. ولئن كنا نود ان نخترق هذه القيود ونزيل تلك الغشاوة عن اعين الناس فهل يجوز لنا ان نسعى لهدم اعظم اركان المجتمع قبل ان نبذل جهدنا لكي نشيد له بنيانا قويا. ليست الانقلابات العظيمة التي تسبب تطور المجتمع وتغير حالته الاّ نتيجة التغير الذي يحصل في افكار الامة ومعتقداتها فالامة العربية لم تكن لتستطيع جمع شملها وتوحيد كلمتها الاّ بعد ان تشربت بالمبادئ الاسلامية تلك المبادئ التي سببت تغييرا عظيما في افكار العرب ومعتقداتهم فمن هذا يظهر لنا ايضا ان الانقلابات السياسية كقيام امة وسقوط اخرى ليست هي نتيجة تطور سياسي كما يظهر وانما هي (نتيجة تغير افكار الامة ومعتقداتها).. فاذا كان الامر كذلك فانت ترى ان الواجب يدعو كلاً منا لان يبذل قصارى جهده في سبيل تهذيب الامة وتقويم معتقداتها حفظا لحياتها وصيانة لها من اعدائها وخصومها. ولانتشاءم لمجرد ان هناك طائفة قد نبذت الفضائل ظهريا ولكنها تعيش عيشة راضية، او ان هناك طائفة اخرى فاضلة مهذبة، ولكنها لاتزال تتجرع غصص الالام في سبيل حياتها. فان مثل هذه الحال ليست بغريبة عن مجتمعنا، ذلك المجتمع الذي لم يعلم حتى الان على اي المبادئ الاساسية سيقوم وعلى اي الافكار الاولية