د. عبد الإله احمد في بغداد،بالدار المرقمة 83- 224 من محلة (باب الشيخ) المقابلة لحضرة الشيخ عبدالقادر الكيلاني نفسه، اقامت اسرة دينية من الطبقة الوسطى انتقلت اليها من (عنه) وعرفت بآل المدرس بعد ان كانت تعرف بـ(بيت وريد). وتضم الدار التي كانت تسكنها الاسرة في بغداد ثلاثة قبور يمكن ان تكون قبورا لاجدادهما..
وكان السيد احمد بني السيد عبدالفتاح احد افراد هذه الاسرة مدرسا في جامع الحيدرخانة يلقي دروسا في التفسير والحديث والفقه (الحنفي) وقواعد اللغة العربية في نحوها وصرفها واشتقاقها وما يتصل بذلك من استطراد واستشهاد بآدابها ومأثور كلامها مما هو شرط في نهج الدراسة، وكان السيد احمد إضافة الى ذلك اماما لجامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني. يعرف السيد احمد بدماثة خلقه ورحابة صدره، ولطفه وتبسطه وتواضعه وتسامحه وادبه الجم، ولم تؤثر عنه العجرفة او ثلب الناس وكان على الرغم من حسه الرقيق قادرا على كبت غضبه وكتمان تأثره، متمكنا من الظهور امام الناس بمظهر المتماسك لدى المستفزات. وفي ليلة الاثنين 29 رجب من عام 1319 للهجرة (4 ماس 15- 11- 1901) الميلادي تزوج السيد احمد عواشة بنت الحاج مستان وفي صبيحة يوم الثلاثاء لـ 16 خلون من صفر 1321 مارس 1903 رزقا ولدهما البكر محمود وكانت الاتعاب العصبية التي تعانيها الام تكدر من جو البيت وتعكر من صفوه، مما يحمل مبكرا الابناء والبنات مسؤولية العناية بانفسهم وبالبيت، كما ان الطابع الديني الذي يسود الاسرة يلزمها الظهور بمظهر الوقار والتزمت مما قد يثقل على الاطفال ويحملهم اكثر مما تحتمله سنهم.. وتتميز محلة باب الشيخ عن سائر محلات بغداد بصفات خاصة من العنف والحدة: انها قائمة حول (الشيخ) ويعد الشيخ عبدالقادر الكيلاني اماما يزوره اهل بغداد واهل العراق، وكثيرون من الهند وافغانستان.. ويبقى من هؤلاء الهنود والافغانيين، ولاسيما من الفقراء، عدد يقيم في جامع الشيخ، وفيما حول جامعه، ينضمون الى عدد عديد من الفقراء والمتسولين والمعوزين، وقد يحتال بعضهم ويرتكب الشعوذة باسم الدين. والى جوار هؤلاء المدقعين، والى جوار البيوت المتواضعة، كان يعيش ال النقيب بقصورهم الشامخة، واموالهم الطائلة، ومواردهم التي لاتنفد، ومكانتهم العالية وما يصيبونه باسم هذه المكانة.. وكان لاولادهم الخدم والحشم، وكل رعاية، حتى اذا رآهم الصبي (الحساس) وعرفهم عن كثب تألم كثيرا، وقارن ورأى نفسه مهضوما وقد يحس بانه احق منهم بالاموال وبالعناية. وآل النقيب، وان كانوا اهل دنيا، كانوا يلقون الاحترام والتقدير من كل جهة، وحتى باسم الدين، واليهم تجبى موارد الشيخ عبدالقادر وهي غزيرة. ان الزائر الهندي، الثري الهندي، ليغدق العطاء، وربما القى على ضريح الشيخ الاف الروبيات فتتساقط فتجمع فتسلم الى آل النقيب. ويتألم لذلك ابن امام الجامع الذي يحس بأن اباه احق بهذه الاموال. ان بيئة باب الشيخ لابد من ان تكون حادة، وانها لتتميز اكثر من سواها بالتناقض الطبقي، وبالاساطير والخرافات والتقاليد والعادات، وكل ذلك يترك اثاره العميقة في النفس المرهفة الحساسة جدا، والذهن الجوال المتوقد، وبقدر مالهذا من مضمار ومنغصات، له فوائده في بعث المرء على التساؤل والتفكير والاطلاع- والتمرد.. وبيئة محمود كما رأينا- بيئة نادرة، صالحة في اعداد الاديب، فان بيتا مثل بيت (المدرس) يؤلف مدرسة اولى للتعلم المبكر الذي لم يكن ليتهيأ للاطفال الاخرين. لقد كان السيد احمد مدرسا طبيعيا لابنه في البيت، وكانت مكتبه مكتبته طبيعية له، وفي هذه المكتبة امات الكتب العربية في شتى نواحيها، القرآن، التفسير، الحديث، الفقه، تاريخ الطبري والسمعودي وابن الاثير، مقدمة ابن خلدون، البيان والتبيين للجاحظ والامالي للقالي والكامل للمبرد، ادب الكاتب لابن قتيبة المعاجم وشروح الالفية والمغني.. المعلقات ودواوين فحول الشعراء: المتنبي، ابي تمام البحتري، الشريف الرضي.. لامية الطغرائي وكتب صفر ومخطوطة اخرى في كل باب، حتى في الخرافات. وكما يفيد الابن من ابيه في البيت، يفيد منه في جامع الحيدر خانة حيث يقعد للدرس وحيث المكتبة، وحيث يقعد السيد محمود شكري الالوسي- وهو المعدود في علماء عصره واساتذته.. هذه بيئة علمية ادبية نادرة تقرب من الصبي الناشئ اهم وسائل المعرفة في عصره، وتجعله ينتفع بها عن قصد وعن غير قصد في اوائل نشأته وفي شبابه. اما عن الدراسة الرسمية، فلم يكن في العهد العثماني من المدارس ما يؤبه له ويجدر ذكره كانت مدرسة واحدة، اسمها المدرسة السلطانية تقع في باب الشيخ، ولم يكن الناس ليقبلوا عليها، بل انهم كانوا يعيبون التلاميذ ويعيرونهم ويرمونهم بشتى انواع السباب والوصمات ويطلقون عليهم اسم (مكتبلية) و(مكتبلي) تعني لديهم اشياء رديئة كثيرة، ولابد من ان يكون الاب الذي يدخل ابنه هذه المدرسة، على حظ وافر من العقل والتسامح والنظر الى المستقبل، لانه يتلقى الاهانة في ولده وفي نفسه.. وقد دخل محمود المدرسة السلطانية في الصف الاول، وكان معه فيمن معه عبدالله جدوع وابراهيم عبدالجبار القزاز.. كانوا في الصف الاول سنة 1910 – 1911 تقريبا.. وهم يحملون ارقاما حسب تسجيلهم، ومحمود اسبق من ابراهيم وعبدالله في التسجيل، ويجلس هو وابراهيم متأخرين في الصف
محمود السيد.. النشأة والتكوين 1903- 1921
نشر في: 16 ديسمبر, 2009: 05:32 م