كتب العراقيون شعرا كثيرا في الأهوال التي عاشتها بلادهم في العقد الأخير بخاصة، ولكن من النادر ان تكون هناك تجربة شعرية، في نقد الألم والموت، وبطريقة صافية ومقطّرة لغويا وتعبيريا، كما انطوت عليه المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر حمدان طاهر المالكي، والصا
كتب العراقيون شعرا كثيرا في الأهوال التي عاشتها بلادهم في العقد الأخير بخاصة، ولكن من النادر ان تكون هناك تجربة شعرية، في نقد الألم والموت، وبطريقة صافية ومقطّرة لغويا وتعبيريا، كما انطوت عليه المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر حمدان طاهر المالكي، والصادرة قبل ايام ببغداد وحملت عنوان "مجرد شجرة".
واذا كان كل ذلك الشعر الكثير المكتوب عن الحروب والموت المتجول في الشوارع وندرة الفسحة الروحية، كان يسعى الى مقاربة إيقاعه الحياتي والإنساني، وهو أمر طبيعي، فانه وقع لفرط الهشيم الحقيقي الذي يحياه، في شروح ومتون وتفاصيل، جعلت النصوص أقرب الى "التوثيق" شعرا، حدّ ان بعضها وصل الى حافة المباشرة التي كان الشعر العراقي ابتعد عنها لصالح تكريس الجوهر الفني منذ عقود طويلة.
وهذا المأزق الذي تعنيه المتون والاستطرادات غير الشعرية في نصوص أبناء السياب، يبدو ان هناك من تنبّه اليه جيدا، وراح يغذّ الخطى الى ينبوع الشعر، حتى وإن بدا نائيا وموحشا طريقه، وهو على الأرجح، ما فعله الشاعر المالكي (ولادة 1969)، وتحديدا في كتابه الأخير: "مجرد شجرة"، اذ يبدو "مجرد شعر" حيال أهوال حياة تحتاج استطرادات لا تنتهي للإلمام بها:
أرقبُ الحياةَ/ الشاحبةَ/ وأجلسُ وحيدًا/ مثلَ سفينةٍ غارقة
أنا ابنُ هذا الموت/ لكنّ الحياةَ تنغّصُ عليّ/ سكرتَهُ اللذيذة .
ولايبدو هنا وصف الشاعر " أنا ابنُ هذا الموت"، قسريا او مباشرا كونه نتاج مسار يكتظ بموت كثير، بل هو يبدو تلقائيا، مع انه ذهب الى التجريد الصافي للكلام والصورة الشعرية، وحيال "حياة شاحبة"، "الوحدة"، "سفينة غارقة"، يكون المآل "ابن الموت" أمرا طبيعيا، وكي يكون شعرا، يزيح المالكي هذا المسار الطبيعي، عبر مفارقة ان الحياة تنغّص على ابن الموت.
ورغم الرقة والهدوء في نصوصه المنتمية لقيم الحياة حيال الموت الذي تعنيه حروب عراقية طويلة :
"محظوظون هؤلاءِ الصغار/ وحدهم يرون/ ابتسامتَك البهية/ وأنت تمسحينَ وجهَ القمر/ من دخانِ الحروب"، هناك الحنق والغضب: "سنذهبُ سويّةً إلى الجنّة/ لقد تعِبنا كثيرًا/ رأينا الكثيرَ من أهوال الجحيم ولمْ يعد في مقدورِ الملائكةِ/ أن ترسلنا لجحيمٍ آخر/ لقد وصلنا بصعوبةٍ بالغةٍ/ إلى هناك/ الجنةُ كانت مزدحمةً/ مثلَ أسواقِنا الكئيبة/ لم نجدْ مكانًا/ فبقينا واقفين".
ومع المهارة في تشذيب نصوصه من هوامش تهبط بالشعر الى نسق توثيقي يومي، الا انه في النص أعلاه، يقع في "المأزق ذاته"، فما معنى "مثل أسواقنا الكئيبة" كشرح فاقد لأية دلالة، بل يهبط بالتماعات عميقة مثل "رأينا الكثيرَ من أهوال الجحيم ولمْ يعد في مقدورِ الملائكةِ/ أن ترسلنا لجحيمٍ آخر". لكنه في موقع آخر يعود الى إيقاع النبرة الخافتة الحانية: " يتساءلون كيفَ طارتِ العصافير/وأنا أريدُ جوابًا/ عن موتِ الشجرة".
ثمة ندب كثير في نصوص "مجرد شجرة"، للذات: "كانَ قلبي كبيرًا/ ودائما كنتُ أحسُّ بثقلهِ/ حتى أني/ أنزلُه مثلَ طفلٍ/ حين أتعب/ لكنّ الآخرين أخذوا/ منهُ ما يكفي/ فلمْ يبقَ منه/ سوى شيءٍ صغيرٍ/ لا يليقُ بحياةٍ صاخبة"، وهذا الندب لا يأخذ المسار التقليدي، البكائي، بل هو يستند الى المصير الإنساني الفردي ليعاين الكارثة كضمير يكاد يسحق في مسار المجنزرة العراقية الجبارة المهلكة.
وبالاستناد الى هذا المصير الإنساني المروع والحقيقي ايضا، ثمة ندب للمسار الموضوعي الذي تعنيه المدينة او البلاد لا تعرف "كيفَ تستيقظُ القناديل"، فيكتب حمدان المالكي: المدينةُ المثخنةُ بالعويل/ المدينةُ الضائعةُ تحتَ أوهامِ العشاق، المشغولةُ/ بالقداسة/ المتعبةُ من خطى الجند،/ المريضةُ بداءِ البداوةِ ، السائلةُ كجرحٍ شاسع/ اليابسةُ مثلُ شجرةٍ ميتة،/ التي تغيرُ أسماءَها كلَّ فصل/ توقدُ للغرباءِ/ موائدَ السهر/ ترمي شتائمَها بوجهِ الشعراء/ تحرّضُ الطغاةَ/ على الحرب/ تتحبُب إلى الله/ بموتِ الصغار/ كيفَ لها أن توقظَ القناديل".
وفي النص هذا "كيفَ تستيقظُ القناديل"، يكاد صاحب ديوان "سماء بقلب شاعر"، قد اوجز فنياً بيانه الشعري، لجهة كونه نفض العفن الكلي الذي يغطي حياة المدينة/ البلاد، ليخرج بشيء من النقاء لمسار إنساني وإن كان وحيدا موجوعا، بحثا عن ضوء، عن "قناديل لا أحد يوقظها"، ويقظتها هنا النور الذي لم تعد المدينة/ البلاد، على معرفة تامة وحية بمعناه الوضّاء.
ومع كثير من نقد الحياة البائسة في بلاده: "الحياةُ عملةٌ قديمةٌ/ الموتُ يلمعُ مثل سبيكةِ الذهب"، نقدها بمعنى انها تمرين متواصل على الموت: "أيها المحمولُ على أكتافِ الوداع/ هل تنظرُ إلينا/ كم نحنُ بؤساء/ ونحنُ نركضُ وراءَ/ طاحونةِ الزمن/ مثل ثيرانٍ ضريرة/ أيها الصديقُ/ تمتعْ بنعمةِ حلمِكَ/ ودعْ لنا هذا المارثونَ الكئيب"، إلا انه يعود لموضوعه الأثير، صوغ الحياة الأخرى كالتماعه حيّة وإن صارت بعيدة وقرينة الشقاء :"أيتها العاليةُ مثلُ ملاك/ والقريبةُ كدمعة".
انظر إلى "الوطن" بغضب
ووفق نسق نقدي حي، حتى وإن كان عبر نص شعري موجز، يكاد الشاعر الذي كان قد اصدر العام 2013 كتابه الشعري الثالث "رائحة السماء"، يكتب الوطن في صورة من يستحق النظر اليه بغضب حقيقي، اذ تبدو الحياة فيه رهينة المكائد والفخاخ، فيما الإنسان طريدة فزعة دائما:
يومًا/ سأمتدُّ في شرايينَكَ/ مثلَ وترٍ مكسور
أقبضُ على جمرةِ قبري/ وأحلمُ بوطنٍ لا يشبهُكَ.