TOP

جريدة المدى > عام > فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الثالث عشر

فصول من السيرة الذاتيّة للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون - القسم الثالث عشر

نشر في: 3 فبراير, 2015: 09:01 م

بدا واضحاً أنّ النجاح المدوّي الّذي حظي به ( اللامنتمي ) تسبّب في خلقِ موجةٍ من العداء لي و كنتُ على المستوى الشخصيّ أعملُ جاهداً على كبحِ هذه الميول العدوانيّة ضدّي ، فمثلاً نشرتْ إحدى الصحف في سياق أحد الحوارات معي عبارةً قلتُ فيها أنّ طموحي الأعظم

بدا واضحاً أنّ النجاح المدوّي الّذي حظي به ( اللامنتمي ) تسبّب في خلقِ موجةٍ من العداء لي و كنتُ على المستوى الشخصيّ أعملُ جاهداً على كبحِ هذه الميول العدوانيّة ضدّي ، فمثلاً نشرتْ إحدى الصحف في سياق أحد الحوارات معي عبارةً قلتُ فيها أنّ طموحي الأعظم هو أن أكون كلمةً تتردّد بين جنبات كلّ منزلٍ ، وردّ أحد الصُحفييّن المحلّيين " أنت بالفعل كلمة تتردّد أصداؤها بين منازلنا ، سيّد ويلسون ، و هذه الكلمة هي : مُزَيّف !! " ، و تملّكني فضولٌ في معرفة هل أنّ الرجل كان قرأ ( اللامنتمي ) فكاتبْته في الأمر متسائلاً لمَ ظنّ بي الزيف ، و ردّ الرجل عليّ برسالةٍ طويلة شرح فيها خيباته هو مع مهنة الكتابة و انتهينا أخيراً أن نكون صديقيْن يتبادلان رسائل ودّية للغاية ، و قد تعلّمْتُ من هذه التجربة درساً ثميناً : ليس ثمّة فائدةُ من الجزع إزاء مظاهر العدوان و التحامُل و تزييف الحقائق التي نُواجَهُ بها احياناً إذ هي في الغالب لا تعني أنّ المشكلة تكمن فينا بل هي تنفيسٌ عن مشاكل دفينةٍ يعانيها أصحابُها و مروّجوها . حصل ذات الشيء مع كاتب آخر يدعى ( كوريللي بارنيت ) الّذي صار فيما بعدُ مؤرّخاً عسكريّاً لامعاً : فقد شرع الرجل في مهنته الكتابيّة بروايةٍ مدهشةٍ - و إن كانت وحشيّة بعض الشيء - ثمّ راح يكيلُ الهجمات ضدّي و ضدّ صديقي ( بيل هوبكينز ) في إحدى الصحف المرموقة فما كان منّي إلّا أن أبتاع نسخة من روايته وأقرأها فوجدتها ممتازة - برغم حسّ القسوة الجامحة فيها – فكاتبتُه لِأخبرهُ برأيي في روايته فأجابني برسالةٍ رقيقة مع دعوة للعشاء ، و عندما لمحْته لاوّل مرّة وجدْتهُ رجلاً فاتناً حسن الطلعة و كانت زوجته امرأة جميلة للغاية و قد أثبتت الأيّام لاحقاً أنّنا كنّا أفضل صديقيْن لبعضنا . كان صديقي بيل هوبكينز على العكس منّي في سلوكه تجاه منتقديه ولم يكن ليؤمن أبداً بسياسة " أدرْ له خدّك الآخر " و كان أن نشأت بينه و بين بارنيت قطيعةٌ مزمنة لم تصلحْها الأيّام ، و لطالما راودني شعورٌ أنّ بيل يعيش أجواء القرن التاسع عشر برموزه الكبيرة ( من أمثال فكتور هوغو ) والصراع المعلن بين الرومانتيكيّين والكلاسيكيّين . وأظنّ أنّ بيل فشل في إدراك حقيقة الفرق الجوهريّ بين صحافة القرن التاسع عشر الصارمة و نظيرتها في القرن العشرين حيث البحث عن جوانب إثارة الأحاسيس بكل الوسائل الممكنة .

كانت المواقف العدائيّة الّتي قوبلتُ بها بعد نشر اللامنتمي قد وصلت أحياناً آفاقاً غير مسبوقةٍ أو متوقّعة : ففي أحد المساءات انضممْتُ إلى دعوة عشاء أقامها ( مارغوت وارمسلي ) مدير الأعمال في مجلّة ( إنكاونتر Encounter ) المرموقة و كان يجلسُ قبالتي الروائيّ كونستانتين فيتزغيبون ، وعندما سألني مارغوت عن رأيي في أعمال ( ديلان ثوماسDylan Thomas أجبتُ بالقول إنّي لا أحبّ معظم أعماله ، وفي تلك اللحظة رأيتُ فيتزغيبون وقد تصاعد الدم في وجهه حتّى غدا قرمزيّاً داكناً ثمّ راح يصيح في وجهي و يدعوني إلى القتال خارج المطعم و هو يصرخ مزمجراً " أّيّها الوغد ، هل تظنّ نفسك ملكْتَ العالم بسبب تلك الإطراءات البلهاء الّتي صبّها عليك بعض الأغبياء ؟ " ، و دهشْتُ كثيراً عندما سمعت بعد يومين من تلك الليلة أن فيتزغيبون ذاته دلق علبةً من البيرة على رأس صديقٍ لي لأنه دافع عنّي في إحدى حانات سوهو !! .
لعب صديقي بيل هوبكينز دوراً ميكيافيليّاً في حياتي : كان دائم الإطراء على ذلك الجيل الأقدم من الكُتّاب الجريئين المقاتلين غير الهيّابين أمثال : هوغو ، زولا ، ويلز ، شو و كان رأيه دوما أنّ الكاتب ينبغي أن يكون له تأثيرٌ مجتمعيٌ واضحٌ و كان أكثر ما يزدريه هو فضيلة " الهدوء المتّسم بالوقار " كما كان مثاله الأعلى هو نمط الكاتب - السياسيّ الّذي بشّر به شو في بعض كتاباته . لم يبْدِ بيل - و هو الأمر الّذي أثار دهشتي - أي حسدٍ تجاهي ، ولكنّ نجاحي خلق فيه نوعاً من الانضباط والعزيمة الصارمة لكي يضمن له اسماً في عالم النشر و القراءة فبدأ العمل مثل آلةٍ بخاريّة على رواية أسماها (المقدس و الخراب The Divine and the Decay) الّتي سرعان ما تلقّفها الناشر هوارد صامويل ورئيس تحريره الشاب اللامع توم ماشلر : الشاب العصاميّ الّذي صنع شهرته الإعلاميّة بنفسه ، ورأى ماشلر أنّ النجاح العارم الّذي هبط على جماعة ( الشباب الغاضب ) ينبغي استغلاله على المستوى التجاريّ فجاءت رواية هوبكينز لتكون بمثابة لقيةٍ سماويّة تساعده في حجز موقع لاسمه في خضمّ دهاليز النشر التجاريّة المربحة . و هكذا انطلق ماشلر في إعداد كتابٍ بعنوان ( إعلان Declaration ) أراده أن يضمّ سلسلةً من المقالات الّتي كتبها جماعة الشباب الغاضب ، و رفض كلّ من كينغزلي أميس و أيريس مردوخ بحكمة و بصيرة المشاركة في الكتاب سواءُ بتدبيج مديح له أو المشاركة بمقالة فيه و هكذا وجد ماشلر نفسه مجبراً على إشراك كلّ منّي ، و أوزبورن ، و وين ، و تيتان ، و بيل هوبكينز ، و مخرج الأفلام لندساي أندرسون ، و الروائيّة دوريس ليسنغ ، و ستيورات هولرويد الّذي كان نشر حديثاً روايته ( الانبثاقُ من الفوضى Emergence from Chaos ) الّتي نشرها غولانز ناشر كتبي و كتب في غلافها الخلفيّ أنّها تحمل رسالة شبيهة برسالة كتابي ( اللامنتمي ) و أنّ كاتبها هولرويد لم يتأثّر بي أبدا و هو الأمر الّذي أرى أنّ غولانز جانبَ الصواب فيه كثيراً ، و لكن على أيّة حال حاز كتاب هولرويد قدراً عظيماً من النجاح و الاهتمام وساهم إلى حدّ بعيد في تعزيز الهوس الجماهيريّ بجماعة الشباب الغاضب . و لكنّ ذات النقّاد الّذين بالغوا في إطراء اللامنتمي شنّوا منذ البدء هجوماّ كاسحاً و ظالماً ضدّ هولرويد وكان واضحاً منذ البدء أنّهم عزموا على عدم السماح ببزوغ نجمٍ جديد صاعد يحقّق شهرة و نجوميّة إعلاميّة بين ليلة و ضحاها كما حصل معي ، و الحقُّ أنّ كلّاً من ستيوارت و بيل كانا ضحيّتيْن لنجاح اللامنتمي و فشلا للأسف في فهم مسألةٍ على قدرٍ كبير من الأهمّية : إنّ كلّ نجاحٍ جماهيريّ عاصف لا بدّ أن ينتهي يوماً ما بردّة فعلٍ عنيفة معاكسة !! .
كان نجاحي الماليّ بعد نشر اللامنتمي ملحوظاً و لايمكن إغفاله : فقد طبع ناشري غولانز في البدء طبعة أولى من الكتاب بخمسة آلاف نسخةٍ نفدت خلال ايّام معدودات ثمّ تتالت الطبعات حتّى بيعت من الكتاب أربعون الف نسخة و أبْدت دار نشر ( هوتون ميفلين ) الأميركيّة العملاقة رغبتها في طبع الكتاب و تسويقه في أميركا وهذا ما حصل بالفعل و نُشر الكتاب في شهر أيلول من عام 1956 ، كما نشرت مجلّة ( تايم Time ) الأميركيّة حواراً معي امتدّ على صفحة كاملة قبل وقت قصير من نشر الطبعة الأميركيّة و سرعان ما أصبح الكتابُ واحداً من أكثر الكتب مبيعاً وظهرت صورتي المنشورة على صفحات مجلّة ( لايف Life ) الذائعة الصيت وأنا مستلقٍ في حقيبة نومي في هامبستد هيث و أرتدي السترة ذات العنق و أضحت تلك الصورة لاحقاً علامتي المميّزة و صرْتُ أعرَفُ بها منذ ذلك الوقت .
تمكّنْتُ بعد وقتٍ قصير من نشر اللامنتمي من مقابلة إليوت بعد أن علمْتُ أنّه يداوِمُ على الذهاب بانتظامٍ كلّ أحد إلى كنيسة القدّيس أوغسطين في منطقة ( بوّابة الملكة Queen”s Gate ) و علمْتُ أيضاً أنّه كان يعمل ناظراً للكنيسة ( أي أنّ أحداً لو حصل و تشاجر أو أربك الهدوء في الكنيسة لَكان واجباً على إليوت أن يمسك بمؤخّرة عنقه و يقوده إلى بوّابة الكنيسة ليطرده خارجاً ) ، وهكذا عزمْنا انا و جوي الذهاب إلى الكنيسة في أقرب يوم أحد للتأكّد من صحّة هذا الكلام ، و عندما فعلْنا ما عزمنا عليه وجدنا إليوت حاضراً بالفعل و لمحناه جالِساً على أحد المقاعد الخشبيّة الطويلة في مؤخّرة الكنيسة و كان مرتدِياً بدلة سوداء أنيقة مع قميصٍ يشعّ بياضاً و ذي ياقةٍ مُنشّاة فذهبْنا و جلسْنا قبالته ، و مع بدء الموعظة الدينيّة سمعنا صوت تحطّم زجاجٍ جعل كلّ من كان حاضراً يقفِزُ من مكانه ثمّ تعالت الأصواتُ ، و هنا وجدْتُ لزاماً عليّ أن أخرج لأرى ما كان يحدث فوجدْتُ العديد من زجاجات الحليب مهشّمةً أمام باب الكنيسة ولمحتُ عدداّ من الأطفال الصغار يتراكضون بعيداً ، وبعد أن تأكّدْتُ من ابتعادهم عدتُ إلى مقعدي و لمحْتُ نظرة امتنان ودودة تشعّ من عينيّ إليوت . ذهبّتُ الأسبوع اللاحق لرؤية إليوت في مكتبه بدار نشر ( فابر وفابر ) و كنت آنذاك أتعاونُ مع الشاعر ( رونالد دنكان ) في مسألة إطلاق سراح الشاعر المعروف ( عزرا باوند ) من السجن الّذي كان محتجزاً فيه بتهمة الخيانة و كنتُ ألتمس الحصول على توقيع إليوت على طلب الالتماس الداعي لإطلاق سراح باوند ، و بدا لي إليوت في مكتبه تماماً كما رايته في الكنيسة : رجلاً مهندماً يحرص على ارتداء ما يجعلهُ يبدو كمدير تنفيذيّ لشركة أعمال كبرى ، و عندما بادرْتهُ بالقول " رأيتك الأحد الفائت في الكنيسة " أجابني على الفور" أعلم وأتذكّرك جيداً " ، فدهشْتُ و سألته " وكيف هذا ؟ " فردّ عليّ باقتضاب "و هل يوجد أحمقٌ سواك يحضرُ الكنيسة وهو يرتدي بلوزة ذات عنق؟ " !! ، و من المثير في هذا السياق أن أروي تلك الحكاية الّتي كنتُ سمعتُها عن ( فاليري ) زوجة إليوت : ففي إحدى حفلات العشاء التي حضرها إليوت و زوجته قفز كلب صغير على كتفَي فاليري وراح يلعقهما بنهم ، و عندما شاهد إليوت هذا ابتسم و اكتفى بالقول " أعلمُ تماماً كيف يشعر هذا الكلب الآن!! ".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

علم القصة - الذكاء السردي

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram