على طول مدى أحداث رواية "الحارس في حقل الشوفان" للروائي الأسطوري الأميركي سالينجر، يتحدث الصبي أو الشاب الصغير ذو الستة عشر عاماً من العمر، هولدين كاوفيلد، يتحدث وكأنه شاخ باكراً. وأظن أنها تلك هي قوة سالنجر، أنه يجعلنا، نتذكر كتابه، مثلما نتذكر سننا تلك. ولأن الواحد مثلنا، شاب شعره، وهو في هذه السن ـ كنت أعتقد أنني الوحيد ـ أحببت هولدين، رغم أنه تجول في نيويورك، وأنا كنت حينها في بغداد. ولكن السخرية اللاذعة، التي امتلكها هولدين، جعلته يصبح أكثر قرباً مني، وجعلتني أشعر بقرابة له، لذلك ليس من الغريب، أن أبدأ بالبحث عن آثاره في نيويورك (وكأنني أبحث عن نفسي في تلك السنوات، لا يهم في مكان آخر)، وأتذكر سلوكه الساخط على المعلمين، ورغبته بتلطيخ أفواههم وسدها بالعسل: تخيلوا بالعسل. أي تناقض! أو عندما يشرح نظريته، لماذا لا يحب رؤية ممثل "لأن الممثل يعيش دائماً وحيداً في القمة". ومن يملك حساسية هولدين، لا يستطيع أن يفكر إلا بهذه الطريقة، بغض النظر عن هويته ومكان إقامته. إذ من النادر أن يتهاون أو يساوم في نظرته للأشياء. ولِمَ لا؟ فمن ينكر بأننا محاطون بالكثير من الأشياء الخاطئة أو الغبية أو الشريرة. إننا ننسى ذلك فقط، وبسبب أمور تافهة أخرى تنجح بإلهائنا.
ليس من الصعب العثور من جديد على الأماكن، التي زارها هولدين في نيويورك. بعضها هي ذاتها، كما وصفها سالنجر في العام 1951 (تاريخ كتابة الرواية). مثلاً الهنود الحمر في متحف التاريخ الطبيعي، الذين يقفون على صفيحة حديدية، "طويلة على نحو مرعب مثل صفيحة سيارة كاديلاك". هناك أشياء قليلة اختفت، دولاب الأحصنة الخشبية في سنترال بارك مثلاً، الذي احترق بعد وقت قصير من نشر الرواية، والذي استعيض عنه بدولاب جديد. من ناحية أخرى، هناك بعض الأشياء، صحيح أنها ما زالت موجودة، إلا أن شكلها أو الجو المحيط بها اختلف عما كان عليه سابقاً، كما حصل لساحة سير المشاة في "روكفيلير سنتر". هناك كان هولدين على موعد مع إحدى البنات قبل رأس السنة بوقت قصير. اليوم تحول المكان إلى رمز وطني، تخفق فيه الأعلام الأميركية الصغيرة وشجرة عيد الميلاد.
ولكن في الرواية، يقضي هولدين معظم الوقت في السنترال بارك. من البركة التي جلس عندها، أبدأ بالبحث عن دولاب الأحصنة الخشبية. الطقس لطيف، والشمس مشرقة. ليست الوزات وحدها التي تغيب، إنما تغيب أيضاً السناجب، جرذان الأشجار السمينة، التي يلتقي بها المرء عادة عند تنزهه في سنترال بارك، والتي لا تخشى منظر الناس. بدل ذلك يواجهني متشرد بلا مأوى، يدفع عربة تسوق (مشهد مألوف في كل عواصم العالم)، علق على عربته قطعة من الكارتون، كتب عليها: "زوجتي السابقة استولت على كل شيء! وفي الطريق المؤدي لدولاب الأحصنة الخشبية أمر بسرداق وبمرتفع صغير، بينما تتوزع هناك أعداد من المصاطب الخشبية والبرك الصغيرة، صُفت عليها لوائح خشبية صغيرة، بمثابة جسور. أقرأ اللوحة الخشبية الوحيدة التي عُلقت هناك: "هاوس جيس أند جيكيرس" (عنوان إحدى الألعاب الأميركية). فأتذكر، بأن هولدين هو الآخر رأى هذه اللوحة، قبل أن يبدأ باللعب هناك. أرى مجموعة من الرجال تقف هناك. أسمع رجلاً عجوزاً أسنانه مهدمة، ممسك بيده قنينة خمر، يصيح بصوت عال: "أوه". تحت المرتفع هناك سرادق آخر، تأتي منه موسيقى روك. إنه دولاب الأحصنة الخشبية. هناك جلس هولدين كاوفيلد على مصطبة خشبية ورأى أخته الصغيرة "فوبي" تركب الحصان الخشبي. إنها اللحظة الوحيدة التي يشعر بها هولدين بأنه "سعيد بصورة تفوق التصور"، عند نهاية الكتاب تقريباً. فيقول: "لا أعرف لماذا؟ لكنها تبدو جميلة جداً بشكل ملعون، بالضبط مثلما تدور دائماً بالدائرة، في تنورتها الزرقاء وهكذا. يا إلهي، كم أتمنى لو استطعت أن أكون بمكانها هناك".
يتبع
زيارة لنيويورك والبحث عن الحارس في حقل الشوفان - 2-3
[post-views]
نشر في: 3 فبراير, 2015: 09:01 م