كان يجب على الدراما المحلية ان تنتظر زمناً طويلاً، قبل ان تسلك الطريق الصحيح لها، والمتمثل هنا بمسلسل استوفى كل عناصر النجاح المطلوبة (البنفسج الأحمر) . وكنا في هذا المكان قد اشرنا الى ان الدراما المحلية لا تنقصها المواهب المبدعة ، كما ان لدينا مخرجين لهم بصماتهم الخاصة بحكم تراكم الخبرات، ومع توافر الفنان الجيد والإنتاج الجديد والذكاء الذي تتعامل عبره شركات الإنتاج في إنجاز الأعمال المقدمة إليها، فإن لهذه مجتمعة ان تعزز من حضور الدراما المحلية بالشكل الذي نتمناه. فالمنتج مطالب بأن يتعامل مع الفن بعقلية واعية ، ثم فنان يعتني باختياراته ، وكتّاب نص تحمل نظرتهم الإبداعية قدرة على معالجة القضايا الإنسانية بمضامين جادة ومختلفة أيضاً.
كل هذه الاشتراطات اجتمعت في هذا المسلسل وأهلته في ان يشكل منعطفاً مهماً في مسيرة الدراما العراقية..
ولست بصدد إخضاع هذا العمل لموشور النقد في هذا الحيز، فذلك يتطلب وقفة اخرى تفي هذا العمل حقه ... ولكننا نقف عن عدد من الأمور التي منحت هذا العمل شرف كتابة تاريخ جديد للدراما العراقية.
ولطالما كانت فكرة وكتابة السيناريو هي الجانب الأكثر ضعفا في الدراما المحلية مع وجود استثناءات تعد على أصابع اليد، فإن هذا الجانب في (البنفسج الأحمر) وجد عافيته مع كاتب كان في مستوى مسؤولية ما انجز تاريخياً وفنياً..
فطنة ناصر طه (مؤلف العمل) تكمن بشكل أساس في انه تعامل مع حدث او أحداث تخضع لشروط تاريخية واجتماعية ونفسية بحساسية بالغة .. فأحداث العمل تخص التاريخ القريب الذي لم يستنفد بعد تداعياته على اكثر من مستوى .. وهي مهمة لاشك يكتنفها الكثير من الصعوبة، ذلك ان الدراما المحلية لم تقاربها بالشكل المطلوب من جهة قراءة علمية لها ولآثارها، بل بوصفها وثيقة جامدة لا يمكن التحرر منها.. ما جعلها قاصرة على تقديم تفسير درامي خلاق للحدث والشخصية بما يرتقي لمستوى الصدقية الفنية..
فناصر طه تعاطى على أساس تبني الوثيقة كضرورة ثم التحرر منها .. وما ساعده على ذلك انه هو نفسه شاهد عيان بل ومنفعل في الأحداث التي مسحها العمل ابتداءً من حرب الثماني سنوات وليس انتهاءً بالفوضى السياسية والاجتماعية التي يعيشها العراق الآن .. هو إذن لم يرسم لنا أهوال الحرب، بل رسم لنا أثرها المدمر، وهو الفعل الأقسى .. وهو ايضاً قدم شخصيات واضحة بواقعها وخلفياتها الاجتماعية والنفسية .. ومن الطبيعي ان نتفهم سايكوباثيتها وسلوكها المنحرف .. تسمية جبار (حكيم جاسم) وستار (مناضل داود) بما تنطويان عليه من نزعة تدميرية وعنفية، هما نتاج طبيعي لزمن قاس وغير آدمي عاشاه في شبابهما، حيث الحرب، وقسوة العوز في الحصار، وهكذا مع باقي الشخصيات التي عادة ما كانت تفلت من كتاب آخرين وتبقى معلقة في سياق الحدث.
بمثل هذه الحساسية والوعي نسج المؤلف طه حكايته مثلما ينسج حائكو القاشان الفارسي بساطهم بحرفية عالية يتجلى فيها الجمال.
فارس طعمة ، صانع ماهر آخر، وجد في حكاية ناصر طه ما يشحذ أدواته في الإخراج ليضعنا أمام معالجة ذكية ، حيث قدم رؤية اخراجية عالية جديرة بالسيناريو المحكم بل متناغمة معه حداً كان فيه المتلقي أمام عمل وكأنه لصانع واحد .. كاميرا فارس طعمة بدأت بالبراعة نفسها التي انتهت بها مهارة المؤلف في نسج حكايته .. ليقدم لنا لقطات ومشاهد حافلة بتكوينات بصرية غاية في الذكاء، أسهمت في فضح دواخل الشخصيات الرئيسة في العمل..
وليس بعيداً عن إدارة فارس طعمة .. تبارى مجسدو حكاية البنفسج الأحمر بإدائهم ليقدموا افضل ما لديهم .. وهو ما افتقدته الدراما العراقية منذ ابراهيم عبدالجليل والنسر وعيون المدينة .. حيث تحرر الجميع من سطوة الأداء المسرحي التي طالما طبعت أداء ممثلينا .. ففيما اكتشف حكيم جاسم ان التلقائية في الأداء لا تعني كمال الأداء، فلجأ الى استبطان الشخصية و(تمثيلها) فكنا نسمع صوته حتى في مرحلة خرسه، مقدما واحدا من افضل أدواره... كان مناضل داود قد تماهى مع شخصية (حسن ديكارت) الذي اقنعنا بعبثية الحرب، مثلما اقنعنا بانغماسه في أجواء الشر المخيمة على الأحداث.. والأمر نفسه يقال مع باقي ممثلي العمل.
البنفسج الأحمر.. عودة الوعي للدراما العراقية
[post-views]
نشر في: 4 فبراير, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...