يقع الموت من ضمن خيارات الطبيعة وحلولها التي أقف أمامها بخشوع، فالموت آلية في إعادة تجديد الجسد (الكلي) ومن خلاله تعمل أمنا الرؤوم على التهام الهرم الفاسد من أجزائها لإتاحة الفرصة أمام اليافع الصالح. الموت أيضاً آلية للتصالح مع البيئة ولولاه لانهار هذا الكوكب عاجزاً عن استيعاب النمو المتزايد لساكنيه.
لكن الموت، من جهة أخرى، يتسبب بمشكلة كبيرة، تكاد أن تذهب بأهمية المصالح التي نجنيها من ورائه، فالموت يهدم تراكم الخبرة العملية لدى الأفراد وما ينتج عنها من حكمة، يهدمها من خلال مقاطعته حياتهم في سنينها الأكثر غنى.
يولد الإنسان بدون تجربة غنية، من جهة، ومزوداً بطاقة هائلة على الحياة، من جهة أخرى، طاقة تفتح نوافذها على حاجة كبيرة لتجريب أي شيء ورغبة عارمة بمعرفة كل تفاصيل المحيط، وهذا ما يدفع المراهق إلى الجموح والمغامرة. لذلك لم ينجح آباؤنا في محاولاتهم كبح جماحنا، ونفشل نحن الآن بتقييد جموح أبنائنا ورفضهم الانصياع لحكمتنا العملية التي علمتنا الحياة.
لا يستطيع شيء أن يصقل هياج الروح الفتية مثل التجارب، وهذه الأخيرة لا تأتي إلا عبر سنين طويلة. سنين تتكسر خلالها أمواج العنفوان عند صخرة الظروف القاسية، ما يبني داخل الوعي حكمة عملية غاية بالأهمية.. لكن المشكلة أن العلاقة بين هذه الحكمة وبين الموت عكسية، فكلما مرت السنين وزادت الحكمة اقترب الموت.. وما أن تأتي اللحظة التي تكاد الحكمة فيها أن تبلغ تمامها حتى يهدرها الموت وهو ينخر الجسد. ما يجعل المجتمع مضطراً لدفع تكاليف الجموح مع كل جيل جديد.
أثرثر معكم بهذه الأفكار أصدقائي، وأنا أدرك بأن الطبيعة ومبدعها أكثر معرفة منّا، فمن يدري لعل الحكمة التي يكتسبها الإنسان تجعله أكثر جموداً ومعارضة للتغيير، الأمر الذي يحرم المجتمع من فرص التطور، خاصَّة وأننا نعلم أن أغلب دعاة التغيير هم من الشباب. لكنني كلما التفت إلى الوراء، تحديداً إلى الأحداث التي تلت سنة 2006 وصولاً إلى سنة 2009 شعرت بألم كبير، فمشاهد الجثث التي قدمناها أضاحي على مذبح الهياج الثوري كبيرة، كانت ضريبة هائلة بقينا نقدمها لصالح الجموح إلى أن تكسر أمام قسوة الواقع وَقَبِل النزول عند الخيارات الأكثر حكمة، والتي عُرضت عليه بوقت مبكر. وربما لو لم يكن الموت هادرا للحكمة العملية بهذا الشكل لما خسرنا كل هذه الأرواح بسبب قلة التجربة.
أخيرا قد لا أعرف أن كان الموت يفقدنا الحكمة التي نحتاج أم يرفدنا بالتجديد الذي نريد، لكنني أعرف بالتأكيد أن الطبيعة أكثر دراية منّا.
جميع التعليقات 1
محمد
هنك علاقة عكسية بين الموت والحكمه؟في الشرق غالبا ماتكون العلاقة بين الموت والحكمة متلازمة وليس عكسية لان كبارنا لايتحلون باي حكمه.ولو اتستطعناان نعرف حقيقة الموت لتخلصنا من الدين الذي عرقل حكمة الانسان.