أغلب صور ذكرياتي عن بغداد ليلية. فشارع أـبي نؤاس، مثلا، كان في النهار قاحلا لذا لم اختزن من نهاراته صورة واحدة تذكرني به. أما لياليه فلها في قلبي ألبومات أقلبها كلما اشتد بي الحنين.
وبغداد، ليس لأني أعشقها، عندي أجمل مدن العراق بل العالم كله. منظرها الليلي عند هبوط الطائرة يوم كنت أعود اليها من سفر، لم تر عيني ألذّ منه. أظنها المدينة الوحيدة التي تفوح منها رائحة الرازقي والشبّوي عندما يجّن عليها الليل. منذ فارقتها الى اليوم ما لفظت "أفيّش" بعمق وصدق إلا عندما كنت فيها.
مرة كنت انا وصديق لي في سهرة موحشة في إحدى ليالي منع التجوال في القاهرة. أظنه أحمد الهاشم على الأكثر. كنا نستعذب البكاء تلك الليلة. قال لي بصوت تنهشه العبرات :"أتعرف بأن المدن التي لا يطوف بشوارعها الغرباء ليلا لا تستحق صفة مدينة؟" قلت له: فماذا تسمى بغداد إذن التي يمنع بها التسكع على أهلها وغربائها ليلا؟ بكى مرة أخرى وشاطرته الدمع بصمت.
أقسى الحكام وأيبسهم روحاً وضميراً من ينام ليله فرحاً وبغداد تنام مع الدجاج وتصحو على أصوات المتفجرات. غنى صديقي بعد ان دبّ رحيق الاحتساء في أقصى خلية من خلايا روحه:
هاك اجروح كلبي شلبيها
وجميع اعضاي صارت شلبيها
حياتي عكب عينك شلي بيها؟
أموت ولا يمر شامت عليه
ما يميز المدن عن البشر انها ،كما الأشجار، تتنفس الأوكسجين ليلا. وأوكسجين ليالي بغداد منعش لحد انك لو تنادمت مع الحبيب في ليلة من لياليها القمراء تسكر من غير خمرة، بحسب مطربتنا الرائعة وحيدة خليل رحمها الله، ورحم والدَي الذي أحس بوجع بغداد فرفع عنها حصار الحياة ليلا.
وان كنت قد قلت أمس بأن اقوى ضربة للإرهاب قد جاءت من مصر، فاني أرى في رفع حظر التجوال عن بغداد وأهلها أقوى صفحة "لعلبة" الدواعش.
لا تصدقوا أن شيئا يحزن الإرهابيين وكذلك الطغاة والمفسدين وكل أعداء الحياة مثل فرح الناس في عودة الحياة لمدنهم ليلا. كان أجمل الأخبار شكلاً ومضموناً ذلك الذي واجهني ليقول "بغداد تحتفل مع أبنائها منتصف الليل برفع حظر التجوال".
أغمضت عيني بعد ان قرأته وكأني أرى كل عراقي وعراقية تغني للمحتفلين: مرينه بيكم حمد واحنه بقطار الليل.
فهل، يا ترى، غنّاها المحتفلون؟ سأظل أغنيها الى الفجر.
غنّي يا بغداد .. غنّي
[post-views]
نشر في: 8 فبراير, 2015: 04:28 ص